الفصل 6
تكرار اليوم
كان إنكريد يقضي كل يوم وكأنه ثمين
لم يكن يترك يومًا يضيع بلا فائدة
«أنا شامل المهارات»
في فنون السيف، لم يستطع أن يصبح أستاذًا ولا موهوبًا خارقًا
أما العبقرية فكانت خارج الحساب
بعد الفشل الثامن، فكّر إنكريد
«حاولت أن أنهي الوجبة بشوكة واحدة»
لم يكن من فئة العباقرة أو النوادر، بل كان على هذا النحو
قسّم إنكريد عمله
«نصف خطوة في كل مرة»
لم يعرف الملل قط. يكرر اليوم مع ازدياد المهارة
كان الأمر أشبه بإدمان. إنكريد كان يستمتع بهذا الحال أكثر من أي شيء
«هناك مزايا كثيرة»
وأعظمها أنه يستطيع خوض قتال حقيقي بلا نهاية
إنها خبرة عميقة ثمنها الحياة
استغل إنكريد ذلك إلى أقصى حد، وحتى اللحظة التي يطأ فيها ساحة القتال كان يقضي يومه ممتلئًا
تدريب قلب الوحش
وتعلم فنون السيف من جديد
ومع ذلك، كان تكرار الزمن يجعله يحفظ ما يجري حوله
كان القمار في ثكنة الجوار أثناء الإفطار مثالًا جيدًا
«ما هذا بحق! لقد غششت، أليس كذلك؟»
«غش؟ هذا الرجل. إنها مسألة حظ»
صباح صاخب مفعم بالحياة
ليس غشًّا. رأيت ذلك مرات عدة. الزهر يخرج الرقم نفسه دائمًا، وكان إنكريد يعرف ذلك
يمرّ ويقضي يومًا آخر. يكرر
وسّعت المعارك الحقيقية المتكررة مفهوم إنكريد. أدقّ من ذلك، كان يملك وقتًا وافرًا للتفكير، فامتدّ تفكيره
«لا حاجة لأن أصدّ سهمًا خصيصًا لإنقاذ بيل»
هذا ما يقدر عليه مرتزق من الدرجة الأولى
تخلّى إنكريد عن ذلك تمامًا، وهكذا استطاع إنقاذ بيل
دمدمة
كل ما احتاج إليه درع أقوى
انغرس السهم في الدرع المستدير. ومهما بلغ مهارة الرامي، يستحيل أن يصيب رأس جندي يختبئ خلف درع
«…من أين ظهرت؟»
قال بيل اللاهث وعيونه متسعة
«إلى متى ستتزحلق على الأرض؟ انهض حالًا؟»
مسح إنكريد العرق عن جبينه بيده، ثم ركل مؤخرة بيل بقدمه
وبعد أن تلقى دفعة على مؤخرته، عاد بيل إلى ساحة القتال مجددًا
«هل سأرى وجه هذا الرجل غدًا لأنقذه هنا؟»
من يدري. كل ما فعله أنه جعل هذا المكان نقطة التفتيش الأولى له
كان تقليب ساحة القتال بحثًا عن بيل هدفًا صغيرًا لإنكريد
وقد حقق ذلك في اليوم الخامس والعشرين
«يا للعجب. يا أم الدير. إن كان لدي وقت سأنقذك أنت أيضًا. بدل أولئك الأوغاد من الوحدات الأخرى»
كان من المعتاد أن يظهر ريم فجأة من الخلف ويثرثر هراء
وفي كل مرة ينقذ فيها بيل، كان يطلق تعليقات مجنونة بمحتوى مختلف
وفي كل مرة، كان إنكريد يرد بالمثل
كانت كلمة «الأم» تشير إلى الراهبة المسؤولة عن الدير
«أنت فضيحة. مظهرك قذر»
الدير لا يقبل من ليس مؤمنًا. والفضيحة تعني الخروج من حضن الأم، أي الطرد من الدير
وهي نكتة رفيعة نسبيًا ليمزح بها مع ريم
«عالم قذر يميّز على أساس الشكل، تفف»
وكعادته، لم يتراجع ريم وانطلق راكضًا
ومن الواضح أنه كان يطارد أحدهم بعيني صقر أو ما يشبه ذلك، من دون أن ينطق بكلمة
رغم تكرار مثل هذه الأيام بلا عدد، لم يستطع إنكريد هزيمة جنود العدو بالطعن
كان محظوظًا في صدّ عدة هجمات، لكن في تلك اللحظة قفز أحدهم من الجانب وسحق جمجمته بمطرقة
«لا وقت لنضيعه»
قال الذي هشّم جمجمة إنكريد
لم يعرف إنكريد كيف حدث ذلك. فجأة دارت رؤيته واقتربت الأرض
لم يستطع حتى رفع رأسه. كل ما شعر به سائل لزج ينساب على وجهه
وحين عاد إليه وعيه قليلًا، وجد نفسه جاثيًا وقد فقد سيفه
«لا بد أنه مؤلم، لكنه رحمة»
وسرعان ما اضطر إلى مصارعة الألم إذ اخترق نصل حلقه
انغرس النصل في حلقه. اندفع ألم لا يُحتمل في جسده كله
ألم قضيب حديدي محمى يلتوي في حلقه هزّ دماغه
كلما اقترب إنكريد من الموت، رمش. تحوّل عالمه إلى أحمر من الدم الذي دخل عينيه
ومن وراء تلك الرؤية المحمرة، ومن خلال فجوة الخوذة، رأى عيني جندي عدوٍ يشهر سيفًا، بدتا حمراوين
وقد لا تكونا حمراوين في الحقيقة، لكن هكذا ظهر الأمر حينها
كان في عيني الجندي رضا كئيب
وبعد أن واجه الموت مرات لا تُحصى، بات كل شيء تافهًا
ربما كان ذلك بفضل قلب الوحش المدرَّب
«يا له من منحرف ملتوي»
لم يكن القصد إظهار رحمة، بل نشوة القتل
كان دائمًا يُدخل النصل في حلق إنكريد ويسحبه ببطء
ربما لم يدرك أنه ينتشي بإحساس الأنفاس الأخيرة وهي تفلت عبر السيف
وبرغم إدراكه هذا، ظل إنكريد متماسكًا
فاجتياز لحظة الموت مرات لا تُعد يغرس الشجاعة بالطبع. كان ذلك محتومًا
ثم
«هل تستمتع خفية بنوع من العبث السري؟»
قال ريم من حيث لا يدري أحد للمرة السادسة والستين
قطّب إنكريد جبينه لكلام ريم
أي هراء هذا؟
«ماذا؟»
«قلب الوحش تعلمته مني. لكن لا يمكن أن تتدرب هكذا وحدك»
كان حد شفرة الفأس يحوم على بعد بضع أصابع من مقلتيه
ولو اقترب أكثر قليلًا، لكفا اندفاع الهواء في خدش قرنيته
وبفضل ذلك، لم يستطع إنكريد أن يرى إلا نصف وجه ريم من وراء شفرة الفأس المصقولة
ومع ذلك، حتى في هذه اللحظة، لم يتزعزع
كانت تلك قوة ما منحه إياه قلب الوحش
الشجاعة التي تجعله يصمد وهو يعلم أن الألم قادم
حدّق إنكريد في عيني ريم المستفهمتين من وراء شفرة الفأس وفكر
«قد يحدث مثل هذا»
إذ بتكرار اليوم، تدرب قلبه الوحشي، فبوصفه من علمه ذلك، قد يبدو الأمر غير معقول
ولما أدرك ذلك، تبيّن له أن السبب جزئيًا أن ريم من نوع أفراد الفِرَق الذين لا يترددون في أي موقف
كثيرًا ما كان ريم يطلق كلامًا فظًا، لكنه لم يكن ممّن يدققون في الأشياء
لكن قلب الوحش قصة أخرى
خصوصًا أنه هو من علّمه
لم يقدم إنكريد أعذارًا تافهة
لم تكن هناك حاجة لذلك
وبعد يوم كامل من التفكير، يمكنه التعويض في اليوم الذي يبدأ من جديد
طَرق ريم الفأس إلى الخلف، فانجلت رؤية إنكريد
ولم يكن على وجهه أثر غضب
كان ريم يتعامل مع الفأس الثقيل كأنه امتداد ليده
وبينما يسحب الفأس، حكّ رأسه بطرف المقبض
«لا أفهم، أتعلمته من شخص آخر غيري؟»
حتى وهو يقول ذلك، كان على وجهه سؤال عن منطق كلماته
كان إنكريد رقيبًا، ومن دونه كانت هذه الفرقة اللعينة جماعة عنيدة لا تسمع لأحد
ومنذ أن تعلم إنكريد قلب الوحش من ريم، لم يغادر هذه الفرقة
لذا، حتى لو أراد أن يتعلم، لم يكن لديه وقت ليتعلم
كان ريم يراقب إنكريد طيلة الوقت
وربما تعلم سرًا أثناء نوبته، لكن هذا أيضًا لا يستقيم
«استخدام السيف شيء يمكنك أن تفهمه حتى لو مت بعد الظهيرة وتقول: آه فهمت. لكن كيف تقوّى القلب وحده؟»
قال ريم، لكن ذلك لا يعقل
قد يموت بعد الظهيرة. ريم لا يعرف شيئًا، لكن كلامه أصاب قلب الحقيقة بلا سبب
«لقد اجتزت حافة الموت مرات لا تُحصى»
فكّر إنكريد وأجاب إجابة مبهمة
لم يبق شيء يتعلمه من ريم في شأن قلب الوحش
ولا عذر يمكنه أن يبدد شكوك هذا الرجل المولود بين البرابرة تمامًا
«لا أستطيع أن أقول إنني أتعلم منك كل يوم مع تكرار اليوم، وهكذا صار الأمر بينما أتعلم وأنا أموت»
لكن يمكنه أن يمرر الأمر نوعًا ما
ريم ليس دقيقًا إلى هذا الحد
حقًّا. لا داعي لإطالة الحديث
«لندعها تمر. أحيانًا تُسقط سيدة الحظ قطعة نقد من غير أن تنتبه»
إنها مقولة شائعة بين الجنود الذين ينجون بالمصادفات غير المتوقعة
وهل ينطبق ذلك حين تتقن حيلة كهذه؟
وإن لم ينطبق، فماذا إذن؟
تجاوز ريم الأمر
«بفضلك صارت المتعة أكثر من قبل. مهارتي تحسنت قليلًا. ما الحيلة السرية التي تدبرها؟»
«شيء مؤلم لدرجة قد يقتل»
لم يكن إنكريد يكذب
«نعم، يجب أن يكون للرجل أسرار قليلة. هذا ما يجعل الرجل رجلًا. ينبغي أن تعرف»
لم يعبأ ريم بذلك أصلًا. قال ما يريد قوله ورفع فأسه كما كان يفعل
«جولة أخرى؟»
قال ريم وهو يحمل الفأس
رفع إنكريد سيفه بصمت
إن كان إنقاذ الجندي الساقط بيل هو الهدف الأول
فالهدف الثاني والأخير هو أن يشعر بالانتشاء كلما قتل أحدًا
كان أن يقتل ذلك المنحرف البارع في الطعن
وكان قد استعد لذلك
كان يومًا لاهبًا، اليوم المئة، مواجهة مع ريم
شدّ إنكريد ذراعه وحرّك عضلاته
ومدّ ساقه اليسرى إلى الأمام، قاصدًا أن يدوس قدم ريم
لكن ريم التقط الخدعة بسرعة وسحب قدمه، فرأى إنكريد ذلك ولوى خصره مرتكزًا على قدمه اليسرى المغروسة في الأرض بدل قدم ريم، ولوّح بسيفه بكل ما أوتي
كانت القدم تمويهًا
كانت حركة تستهدف دفع ريم إلى التراجع
شدّ عضلاته ولوّح بسيفه
وفي لمحة، رأى إنكريد ذراع ريم تنثني كالسوط
كان المنظر غير واقعي إلى حد بدا معه الفأس في يده وكأنه ينثني
دمدمة
حدث ذلك في طرفة عين
انثنت شفرة الفأس وانقضّت صاعدة كوميض البرق
عندها ضرب إنكريد بالسيف الذي في يده
طار السيف إلى أعلى
وانزلق من يد إنكريد، وصفّر في الهواء ثم هبط بحدّة على الأرض
ورجّ الصوت الأرجاء حين ضرب حد السيف حجرًا مغروسًا في الأرض مصادفة
رأى إنكريد السيف يتدحرج على الأرض
«دعنا نلقي نظرة»
اقترب ريم فجأة وأمسك معصم إنكريد
كانت يده ترتجف من صدمة فقدان السيف. نظر ريم إلى يد إنكريد ونقر لسانه استياء
«كان ينبغي أن تدمع قليلًا»
«ماذا؟»
«عدّل قوتك قليلًا، ليس المقصود أن تلوّح بفأس على عماية هنا»
«ذلك الطعن كان لا بأس به، مقبول، لكنه نقص قليلًا. لست بارعًا في الشرح، لكن كان عليك أن تُفجّر المقبض لتوك. ليس الموضوع أن تتمسك بالسيف حتى لو مت»
رفع إنكريد يده اليمنى وهو يتذكر تعليمات لا تُحصى من معلم فنون السيف لديه
وبدء كل يوم من جديد وسط أيام متكررة أمر مُنهك
فتذكر إنكريد أن يغيّر بداية كل يوم قليلًا قليلًا
ومنذ الطفولة كانت ذاكرته استثنائية
ولم تساعده ذاكرته كثيرًا في فنون السيف حتى الآن
وبالطبع، الأمر مختلف الآن
خصوصًا حين يسترجع ما تعلمه على أيدي معلميه
قال ذلك وهو يستعيد تعاليمهم
«أي هراء هذا؟ إن لزم الأمر ارمِ سيفك في وجه العدو. هذا، آه، جيّد. لنجعله أبسط. أين وجهت ذلك الطعن قبل قليل؟»
قال ريم وهو يزفر ساخِرًا
لم يُجب إنكريد بسهولة
كان ذلك الطعن تقنية سرية
تقنية سرقها من العدو بعدما طعن حلقه أكثر من مئة مرة
من الوضعية العامة، إلى موضع القدم ووزن السيف، إلى حركة العضلات، واتجاه أصابع القدم، وشكل اليد القابضة على السيف
لقد سرق وقلّد كل شيء
«قبل قليل، تلك ضربة السيف، ظاهرها مقنع، لكن، تبا. من الصعب شرحه على نحو يثير الجنون. هنا، هذا هو بوش»
خفض ريم الفأس ورسم دائرة كبيرة على تراب الأرض
كانت تقريبًا بحجم رأس إنسان
«لنقل إن وجهتنا هنا»، قال ريم وهو يدير الفأس فوق الدائرة ثم خطّ علامة حادة
«لكن في الواقع، نحن نذهب إلى هنا»
حار إنكريد في البداية مما يعنيه ذلك
لكن ربما لم يذهب الوقت الذي قضاه في التعلم على يد معلمه سدى
فعلى الرغم من غموض الشرح، التقطه كما تُلتقط ثمرة ناضجة حلوة تلتصق بطرف اللسان
«الهدف»
ما جوهر الطعن الذي نفذه للتو؟
أكان يريد ثناءً لأنه أحسن الأداء؟
وبتقليد متقن، أكان يبتغي اعترافًا بأن لديه ذرة موهبة؟
ما المغزى؟
لأي شيء يُستعمل السيف؟
للقطع والطعن، سلاح قاتل
ومن بينها، الطعن تقنية أساسية في فنون السيف، تستهدف نقطة مفردة
وهي شائعة خصوصًا في أساليب مثل لعب السيوف الثلاثة
وسمعت أن هناك فرسانًا يستعملون نصلًا رقيقًا لضرب الفجوات في الدروع
«لا أستطيع شرحه أفضل من هذا حقًّا. ظننتك ستتفادى أو تصد تلقائيًا، لذا أفلتُّ السيف بسهولة شديدة. لكن ذلك الطعن قبل قليل كان يجب أن يكون حاسمًا. كأنك تقول: سأطعن ولن تستطيع أن تتفادى. كان عليّ أن أُظهِر ذلك بحسم» قال ريم وهو ما يزال يراجع في ذهنه إن كان قد شرح جيدًا
وبحكم طبيعته المرحة كان شرحه متعرجًا قليلًا. غير أنه إن فهم الخصم تقريبًا، فإن شرحًا كهذا، وإن بدا نباح كلب جار، يُعد ممتازًا. لذا كان بالنسبة إلى إنكريد شرحًا عظيمًا
«لم أكن واثقًا من سيفي»، هكذا فكر
كان الطعن السابق مثل طعن مرتزق من الدرجة الثالثة
وفي اليوم المئة والأول أدرك إنكريد
وحتى اليوم المئة والعشرين كان يطعن بكل ما لديه من قوة
وفي اليوم المئة والرابع والعشرين مزق فأس ريم الخاطف مقبضه
لم يكتف بالتمزيق؛ بل فجره
وسال الدم على قبضته
ضحك إنكريد لما أنجزه
«هل جننت تمامًا الآن؟ في ساحة القتال لا يوجد أخطر من حليف مجنون، أليس كذلك؟ لا، لماذا تظل تضحك؟»
بدا على ريم حرج غير معتاد، لكن إنكريد لم يستطع أن يكف عن الضحك
«تبًّا، كفّ عن الضحك. تبدو كأنك أحمق مخبول»
قال ريم وهو يشهد أحداث «اليوم» المئة والرابع والعشرين