الفصل 187
كلما نظر إلى إنكريد وجد قبضتيه تنطبقان من غير وعي
أغلب الجنود شعروا بشيءٍ شبيهٍ حين رأوه
كانوا يعرفون أنه صعد من القاع بمخالبه
وقد شاهدوا بأعينهم كيف يُجازى الاجتهاد
حين رأوا إنكريد شدّ الانتقام ومجموعة الجنود قبضاتهم، وفي أيديهم رماح وسيوف ومطارق
تجمّع الجنود ولوّحوا بأسلحتهم
حماسة غير معتادة عادت لتشتعل في الثكنات
«هذه الأيام يبدو الجنود أكثر اجتهادًا من قبل، لماذا فجأة هكذا»
كان الجو مختلفًا عن المعتاد
علّق إنكريد وقد أحسّ بالتغيّر، وما إن سمع كرايس حتى ازدرى ضاحكًا
«أتسأل لأنك لا تعرف»
وهل كان ليسأل لو كان يعرف
«أجواء السوق ليست جيّدة، سأذهب لأتفقدها»
من غير جوابٍ غادر كرايس، حسنًا، الحماسة والشغف كلمتان يحبّهما إنكريد، والسبب لا يهم
التدريب الشاق سيعينهم جميعًا على النجاة
ونتيجةً لذلك
«لنخُضْ نزالًا تدريبِيًّا»
صار يقصده عددٌ أكبر بهذا الطلب، ولم تكن هذه أول مرة، وكان إنكريد يرحّب بمن يطلبه
والفرق الوحيد
هبط، طق
كل المبارزات كانت تنتهي في حركةٍ أو حركتين
لا معنى للقتال إن لم يكن تحديًا
الفجوات بين المستويات كانت فاضحة، وكان جسده يجيب تلقائيًا
حين يهبط نصلٌ ما لا حاجة لمقابلته بسيف التدريب، دفعةٌ واحدة تكفي لإبعاده
التقنية الجديدة التي تعلّمها كانت مبنية على تقنية السيف القويمة
ينحرف خطوةً يسارًا ويُلوّح بسيفه يمينًا ليصنع بقعةً عمياء في مجال نظر الخصم
والإنسان إذا غاب عنه شيءٌ اضطرب، فيلتفت سريعًا ليزيل البقع العمياء
وفي تلك اللحظة يردّ بالضربة
كانت حركةً بسيطة من خطوتين، لكنها نافعة حتى أمام مستوى «حرس الحدود»
«أنت مختلف»
مع أن السيف كليل، إلا أن ضربةً مصيبة جعلت معدة تورّيس تؤلمه، وهو قابضٌ على بطنه يتمتم
لا، ليس مجرد مختلف
«شبه فارس» ربما بلغ هذا الحد
كيف قفزت مهارته هكذا
«حرس الحدود» مؤلفٌ من أناسٍ يلامسون حدود القدرة البشرية
وهو فريقٌ تتنوع فيه التقنيات وأساليب السيف
كان تورّيس من هذا الحرس وقد راقب إنكريد عن كثب
«قد يصبح هذا الرجل فارسًا بالفعل»
كان زمنٌ إذا قلتَ فيه إنك ستغدو فارسًا سخروا منك وعدّوه حلمًا باهتًا
أما الآن فلم يبدُ حلم إنكريد عند الآخرين بعيدًا عن الواقع
«ألا ينبغي أن أضيف كلمة سيدي حين أناديك يا قائد السرية يا… جندي… تورّيس»
«هاه»
«أنا مؤقتًا قائدُ سرية»
قال إنكريد وأشار إلى نفسه بإبهامه
«…قائدُ سرية، سيدي»
«أمزح»
«يا وغد»
ضحك تورّيس وهو يتكلم
الرتبة رتبة، لكن العلاقات علاقات
لا ضرورة للحفاظ على علاقةٍ هرميةٍ مع تورّيس أو مع الانتقام، فليسوا رؤساؤه المباشرين
وكان سلكُ احتياطِ حرس الحدود فضفاضَ التراتب أصلًا
في حامية العاصمة قد تُبرَّح ضربًا حتى الموت إن أسأت قراءة رتبة، لكن هناك هناك، وهنا هنا
«يبدو أنك تصير مثل قائد السرية الرابعة»
كلمات تورّيس جعلت إنكريد يغوص في التفكير
أهي تلك المزحة الشبيهة بالجنّية
«هاه، على كل حال، سأذهب»
حتى بعد ذهاب تورّيس طلب عددٌ من رجال الحرس مناوباتِ مبارزةٍ، ولم يكن لدى إنكريد سببٌ ليرفض
صباحًا بعد الاستيقاظ كان يتمرّن على «تقنية العزل» وعلى السيف
وبعد الفراغ من الغداء
«نخوض جولة»
تحدّاه ريم، وما زال خصمًا صعبًا، ولو فعّل «قلب القوة العظمى» إلى مداه فربما يقترب جدًا من العلامة
«إن أفرطتُ لن أستطيع إتمام برنامج تدريب العصر»
وقد دفع الثمن غير مرة حين انجرف
لذا ضبط إنكريد نفسه، فهذا تدريب لا قتالٌ حقيقي
وكذلك فعل ريم
فلم يعُد كالسابق يستهدف شقَّ الرؤوس، ولم يكن ذلك غرضه أيضًا
وبعد جولة الغداء ظهرت وجوهٌ مألوفة واحدًا واحدًا
«أتفحص مهارتي أيضًا»
كان الانتقام يأتي كثيرًا كذلك، يطلب تعليمًا دقيقًا، وإنكريد يؤمن بالمثل القائل إن التعليم تعلّم، فلا يرفض
«لكن ما قصة اللقب»
لم يستطع نسيان المزحة
«أتصير قائد السرية الجنّية»
وهو عين ما قاله تورّيس
وهذا، حسنًا، كان مُزعجًا بخفّة
كان الطقس حسنًا أيامًا متتالية، ما عدا مطرٍ خفيف في اليوم الثالث بعد العودة فقد كانت الشمس ساطعة
«يومٌ جميل، مثالي للتدريب»
«قلتَ الشيء نفسه في يوم المطر، أهناك يومٌ سيئ للتدريب يا قائد»
تمتم إنكريد بحديثه عن صفاء اليوم، فسأله ريم من خلفه
فكّر إنكريد لحظةً ثم أجاب
«لا يوجد»
«…ربما لو ضُرِبتَ على رأسك مرةً أخرى تعود لطبيعتك، قائدُ السرية الجنّية لم ييأس منك بعد، لا يزال بوسعك أن تصير شخصًا عاديًا»
صاح ريم بحماسة، فانتهره إنكريد أن يمسح النوم من عينيه ومضى في روتينه المعتاد
وفي اليوم التالي أمطرت، لكن البرنامج كان هو هو
كان يومًا منسوخًا ولصِقًا من سابقه
وكانت عيون كثيرة في الثكنات تراقبه
كيف أقولها، لم يعد الأمر مُمِلًّا حتى
مطرًا كان أم صحوًا، فهو من ذلك النوع أصلًا
ومع أن مهارته تحسّنت وصار قائد سرية، إلا أن شيئًا لم يتغيّر
بمعنى آخر، ظلّ إنكريد هو إنكريد
بعد أسبوعين من عودته
في يومٍ جميلٍ آخر، وبعد نزال الغداء، مسح ريم العرق عن جبينه بكُمّه وجلس على الأرض
«عصير التفاح كان لذيذًا»
قالها ريم عرضًا، لكنها التقطت انتباه إنكريد، كان حدسًا أو حسًّا سادسًا
بدا كأن لدى ريم كلامًا يودّ قوله لكنه يلتفّ حوله
ريم يلتفّ حول الكلام
لغرابته صمت إنكريد منتظرًا أن يتكلم ريم
«إن بقي معك شيءٌ منه فهرّب لي قليلًا»
لم يبق، كان هناك القليل للطوارئ يكفيه هو نفسه
وقد قال لهم أن يرتشفوه، لكن ريم جَرَعه جرعًا
حتى راغنا نادرًا ما أسرف في الثناء على الشراب
الجميع قال إنهم استمتعوا به
جاكسون أخذ رشفَتين، وأودين شرب نحو خمس رشفات
لكن كون ريم تهرّب من السؤال مرتين جعل إنكريد يظن أن وراء الأمر شيئًا
«هل قتلتَ أحدًا»
سأل عن أكثر ما يثير الشبهة أولًا
«هاه»
«أسأل هل قتلتَ ضابطًا أعلى في وحدةٍ أخرى وأنا غائب»
أيمكن التستّر على شيءٍ كهذا، إن لم يُضبَطوا حتى الآن فلا بد أنهم أخفوه بإحكام
والمشكلة تكون في ما بعد
«عمّ تتكلم»
إذًا لم يقتل أحدًا
«هل ضربتَ أحدًا ضربًا مبرّحًا، أعطبته»
وهذا أيضًا مشكلة كبيرة، لكنه أهون من القتل، وإن كان يأمل ألا يكون قد بلغ ذلك
«ليس من السرية الأولى، صحيح»
سأل مجددًا
«…فجأة أودّ أن أسأل، كيف تراني»
كلبٌ مسعور ينهش لأتفه استفزاز
مجنونٌ يبرحُ رؤساءه ضربًا إن لم يعجبوه
شخصٌ شاذّ يعذب الجنود للمتعة، ويضاعف العذاب إن أحبّهم
«النظرة في عينيك، تبا، أظن أنني أصبتُ الآن بجراحٍ خطيرة، لم أرَ تلك النظرة من قبل»
من قبل أبدًا، ها، هذا أيضًا مفاجئ
كان يشكّ قليلًا، لكن كانت مزحةً لا أكثر
وعادةً يبردون بمزحٍ كهذا ثم يذهبون للغداء، وفي تلك الدقائق بدأ ريم يتكلم
«حسنًا، ما دمتَ لم تقتل ولم تضرب أحدًا فذاك جيد»
قال إنكريد، فتنهد ريم ورفع بصره إلى السماء وبدأ يحكي
كان نظرُه مائلاً، وهو جالسٌ تحت شجرةٍ تبعد خمسَ خطواتٍ عن إنكريد
ألم يكن قائد الكتيبة ماركوس قد نقل تلك الشجرة إلى جوار ساحة التدريب
«لأن ساحة تدريبٍ بلا ظل قاحلةٌ جدًا»
رجلٌ دقيقٌ على غير المتوقّع
جالسَين متباعدين وبينهما الشجرة، بدأ صوت ريم يُسمع
«حين كنتُ طفلًا علّمني أبي أولًا استعمالَ الرمح، وكان، حسنًا، ممتعًا»
ما الذي يحاول قوله
وفجأة تذكّر كلمات الروح الشريرة في السيف الملعون يومًا ما
العائلة، السيف، الدم، الرغبات غير المستوفاة
هذه الأشياء كبّلته بالأرض
لضمان دعم المترجمين، اقرأ دومًا رواياتك من موقع مركز الروايات، مكتبة بلا إعلانات وأكبر منصة عربية للروايات.
أفلدى ريم شيءٌ من هذا أيضًا
الإنسان مربوطٌ بطبيعته إلى شيء
سواءٌ كان حلمًا أو منزلةً أو قوةً أو «كرونا»
«وتعلمتُ الصيد، وكان ممتعًا أيضًا»
لكن هذا الرجل
«وتعلمتُ السيف، وكان ممتعًا كذلك»
أيعلمه كيف يتكلم من جديد، صار كلامه الآن متعثّرًا مرتبكًا، على غير ما يكون حين يسخر ويعذّب الآخرين
ورؤيته على هذه الحال جعلته أضعفَ حتى من راغنا
وحسنًا، كل أفراد السرية الآن شبيهون حين يتحدثون عن أنفسهم، مرتبكون، يتعثّرون، وأوضح ما يتكلمون به حين يعلّمون السيف
لم يعرف كل شيء، لكنه تعلّم بعض الأمور من فتات ما يسمع
ريم من الغرب، وراغنا من الشمال، وأشياء أخرى
وكان حديث ريم هذا مختلفًا
أسلوبه في الكلام مُربك، لكن المحتوى يستحق الإنصات
«في ذلك الوقت اندلعت الحرب الغربية، لم يكن منظرًا جميلًا، لكن ماذا بوسعنا أن نفعل، لا يمكن أن نجلس بهدوء وهم يأتون ليقتلونا»
كانت الحروب لا تزال كثيرة في القارّة، وقد وسّعت «ناوريليا» حربها مؤخرًا مع «أسبن» لتستولي على «سهول اللؤلؤة الخضراء»
ومع الزمن سيُعرف ذلك بحرب سهول اللؤلؤة الخضراء أو ما شابه
أما الحرب الغربية التي ذكرها ريم فكانت ضاريةً خاصة
عشرات القرى الرائدة ادّعى كلٌّ منها ملكًا له
وبعضهم لم يسمّها الحرب الغربية بل حرب العروش
وفي النهاية خرجت قبيلةٌ واحدة منتصرة، لكنه كان نصرًا باهظ الثمن
وبعدها اضطروا للخضوع للإمبراطورية وقد خرّبوا الغرب وأجدبوه
«في ذلك الحين استعملتُ السيف أيضًا، وكان ممتعًا، لِمَ تنظر إليّ هكذا»
يا للعبقري اللعين
يبدو أن كل سلاحٍ تلتقطه يروق لك
ومن كلامه بدا أن ريم كان فاعلًا أيضًا في الحرب الغربية
وبحساب سنّه الآن
«لا بد أنك كنتَ نحو الخامسة عشرة إذ ذاك»
«نعم، حوالي ذلك»
خمسةَ عشرَ عامًا فقط
«ماذا كنتُ أفعل أنا وقتها»
أكنتُ أحاول بيأسٍ أن أخرج من القرية
أم ما زلتُ أؤمن أن لديّ موهبة
كان وقتًا أؤمن فيه أن العمل الشاق يقود إلى النجاح لأن الزمن عادلٌ مع الجميع
لكن الزمن ليس عادلًا
ومن حكاية ريم وحدها يتضح أن الزمن قد يجري بسخاءٍ أشدَّ مع ذوي الموهبة منه مع من لا يملكونها
«إذًا، ثمة شيءٌ أودّ أن أسأل عنه»
لم يكن منطقيًا، ينقصه السياق، ويبدو بلا قصدٍ كأنه يتفاخر بعبقريته
وقد ذكر أيضًا أنه قتل شخصًا كالدب من قبيلةٍ مجاورة أثناء الحرب
وهو لا يعرف من ذاك أصلًا، فكيف سيهتمّ
وفي ختام كل ذلك طرح سؤالًا
«أأنت حقًّا ستصير فارسًا»
كان سؤالًا مفاجئًا، لكن إنكريد لم يرتبك البتة
ربما لأنه سؤالٌ كان يفكر فيه دائمًا
ألم يكن إنكريد يسأل نفسه الشيءَ نفسه
«أأستطيع أن أصير، أهذا ممكن، ماذا يعني أن أكون فارسًا»
ما كان من أجوبةٍ في الأسئلة المتكررة، لذا كان يتقدم خطوةً كل يوم، لأنه لا طريق غير ذلك
حرفيًا، سواء أمطر أو ثلج
وسواءٌ أشرقت الشمس ساطعة
حتى في الطريق الذي يسلكه لأجل مهمة
حتى وهو يعرف أن اليوم قد ينتهي بالموت
ولم يكن ذلك كافيًا حتى ليُسمّى عنادًا
«نعم»
لم تكن هناك ذرةُ ترددٍ في الجواب، كان إنكريد هادئًا، كأي يومٍ آخر، وكأي جواب
ولريم بدا منعشًا من جديد
«أتظنه ممكنًا»
«لا أدري»
كان جوابًا صادقًا، فلا أحد يعرف المستقبل، وحتى أقوال العَرّافين لا يؤتمن لها
«أهكذا»
«نعم»
«بالفعل»
«نعم»
تبادلا كلماتٍ تافهة قليلة
ثم عاد الروتين المعهود، أكلٌ وراحةٌ ومبارزة
ولم يطرح ريم السؤال نفسه مرةً أخرى، كان هادئًا، لكن من يدري ما الذي يدور في رأسه
كان ريم غارقًا في التفكير
إن أصبح ذلك الرجل فارسًا حقًّا، إن حدث ذلك
«أأعودُ فأسترجع ما خلّفتُه»
كانت معضلةً جادّة، فإن عاد ليسترد ما تركه حين غادر أرضه، فحتى إن لم يصِر ما يسمّيه الناس فارسًا فسيبلغ على الأقل مستوى الفارس
أهل القارّة الدهاة يميلون إلى تضييق طريق الفروسية إلى مسارٍ واحد، لكن ريم رأى غير ذلك
فالحق أنه في الغرب كانوا يستعملون بدل «فارس» كلمة «بطل»، بطلٌ يفتتح القارّة، مصطلحٌ أصله أساطير قديمة
وكان ريم يومًا المرشح الأول بين جيل الأبطال التالي، لقد كان الأفضل
وبعد لحظةٍ وجيزةٍ من التروي مرّت عدة أفكارٍ خاطفة في ذهنه
وبينما يراقب إنكريد يشهر سيفه ليلًا ونهارًا اتخذ ريم قرارًا
«إذًا أظنني سأصير فارسًا أنا أيضًا»
قالها ريم عرضًا، وعادةً كان إنكريد سيمازحه أو يسخر منه
مثلًا
«حقًّا»
«لا تصير فارسًا فقط لأنك ضربتَ ضابطًا أعلى»
«أتراك بخير»
انتظر ريم أن يسمع شيئًا كهذا
لكن إنكريد أجاب بهدوء
«حقًّا»
ثم أتبعها باقتراحٍ يكاد يكون بديهيًا
«مبارزة»
ووجد ريم نفسه مسرورًا على نحوٍ غريب
يا له من أمرٍ مدهش، على أي حالٍ يبقى إنكريد الشخص نفسه
وفي ثباته ذاك قدّر ريم لمحةَ ما يشبه الاحترام في لهجة إنكريد وكلماته
في الوقت الذي كان فيه ريم يشارك إنكريد عزمه، كان شخصٌ يضع قلنسوةً سوداء تغطي وجهه يراقب أسوار حرس الحدود من خارج المدينة
«إنها عالية»
سيصعب على معظم الوحوش أن تقفز فوقها
لكن ماذا لو كان الوحش أرفع رتبة
وعلاوةً على ذلك
«تحالفٌ مؤقت»
خرجت دزينةٌ من قطاع الطرق «أصحاب الشفرة السوداء»
وهذا يكفي لإحداث اضطرابٍ كبير