الفصل 174
دقّ جرس الطوارئ، لكن لم يستيقظ أحد عند سماعه
ففي النهاية، يستحيل أن تستيقظ مجددًا إذا كنت مستيقظًا أصلًا
سهر الجميع الليل بعيون مفتوحة. خبرُ عودة «النولز» أبقاهم متأهّبين
عادت الوحوش والكائنات مرة أخرى
هذه المرة كانت مختلفة عمّا قبل
ملأت الكائناتُ أحد جوانب البرية، وبينها أشياء لم يروها من قبل
كان اثنان أو ثلاثة منهم يقتربون حاملين تحت آباطهم أدواتٍ طويلة
كانت أدواتٍ طويلةً بثقوب في وسطها
وعلى خلاف السابق، لم يندفعوا بطيش، بل بدا عليهم شيء من النظام
كانت هناك عشرات من مثل تلك المجموعات المنظَّمة. حاول دويتشه — متذكّرًا ما تعلمه من مرتزقٍ محاربٍ مخضرم عند انضمامه الأول — أن يقدّر عددهم
ثنى أصابعه ليصنع دائرةً بها، واستخدمها لعدّ «النولز»، مقدّرًا كم دائرةً مثلها ستغطي المساحة كلها
«عشرون»
نحو 20 في كل دائرة، وحوالي 50 دائرة بالمجموع؟ بدا الرقم قريبًا من ذلك
مختلطين بين «النولز» ووحوش الضباع كانت جموعُ «الغول» تزحف
كان العدد مرعبًا، بل أكثر من البارحة. والبارحة كانت كابوسًا أصلًا
كل شيء كان مُفزعًا، لكن الأكثر ترويعًا كان ما يحملونه في أيديهم
تلك الأدوات الطويلة المثقّبة
«سلالم؟»
انفلتت الكلمة منه من غير قصد
شعر دويتشه بولمان بخوفٍ يتسلّل إلى صدره
لقد جاء «النولز» بسلالم
كان «النولز» المتوحّشون يستعملون أسلحة. لذا، إذا تعلّموا، فبوسعهم استعمال الأدوات
والأدهى أن هذه كانت — بوضوح — أشياء مصنوعة على عَجَل
«أصنعوا سلالم؟»
مستحيل… لِمَ بحق السماء يصنع «النولز» سلالمًا
لا بد من مدبّر خبيث خلف هذا، شخصٍ يشدّ الخيوط من الخلف
«أتباع الطائفة المنحرفة»
زاد ذلك من قلقه. لكن المشكلة العاجلة كانت السلالم
سواء صُنعت بعجلة أم بإتقان، إن تراكمت تلك السلالم على الجدران فلن تهمّ جودة السلالم أصلًا
«زيتٌ يغلي!»
صاح دويتشه بدافع الغريزة
«أتظن أننا نملكه؟» جاءه ردّ شيخ القرية
بقيت بعض الحجارة للرمي، لكن ليست كثيرة. وكان لديهم عدد لا بأس به من السهام، لكن هل يصدّون بها نحو 1,000 وحش
حين يحتشدون تحت الجدران ستصيبهم الرمايات، لكن الرماة 20 فقط
لا يمكنهم سكب الزيت المغلي كما في الحصارات
هل يجمعون القذارة ويسكبونها
هل ضربهم بالقاذورات يردع «النولز» أو وحوش الضباع
لا فرصة
عليهم الصمود 7 أيام أخرى حتى تصل الإمدادات، لكن هل يقدرون
«لو أن لدينا حجارةً كافية»
ومع 20 رامٍ فقط ومشاركة القرية كلها، ماذا سيحدث
بعد أن تنفد حجارة الرمي، لن يمكن استخدام الأهالي قوةَ قتالٍ حقيقية
إرسال هؤلاء القرويين للاشتباك القريب أشبه برمي شرائح لحمٍ نادرة إلى «النولز»
لن يستطيعوا نقل ما يكفي من حجارةٍ قابلة للرمي من المحجر في يوم واحد. يفتقرون إلى الوسائل والأيدي
وحتى إن حملوا كل ما قدروا عليه فلن يكفي. لن يstopوهم بهذه الطريقة
«لا فرصة»
إن صعدت السلالم فالأمر منتهٍ. فارق العدد صارخ، حتى لو حاولوا صدّهم بالسهام والصخور المتدحرجة
وحتى إن لعب أتباع الطائفة المنحرفة حيلةً ما، وإن ألقوا لعنة، فكيف سيقاومون
سيكون حظّهم حسنًا إن لم ينهَر الجميع في المكان
حتى دويتشه نفسه لا يملك وسيلةً حقيقيةً لصدّ مثل تلك اللعنات
هذه مجرد قريةٍ رائدة صغيرة، ليس أمرًا يقدر قائدُ مرتزقةٍ سابق على التعامل معه وحده
صراحةً، كان دويتشه يريد الفرار
انتصار الأمس صار ذكرى بعيدة
ذلك الصانع الذي جاؤوا به لبناء الجدار مازح يومًا بتسميته «جدار إنكريد المجنون»، أليس كذلك
يا للمزحة، لم يستطيعوا حتى رصّ حجارة الأساس كما يجب
بهذه الوتيرة ستغدو هذه البقعةُ عشًّا لمستعمرة «النولز». ستصير قريتهم. قريةٌ لـ«النولز»؟ الفكرة وحدها تُفقد الصواب
في النهاية سيُنظَّم فريقُ صيدٍ واسع، وسيحرقون مثل هذه القرية بسهولة
لكن ماذا عن الذين سيموتون ويخسرون بيوتهم إلى أن يحدث ذلك
لقد استثمر دويتشه كل ما لديه في هذه القرية الرائدة. إن سُلبت، فلن يبقى له شيء. سيبدأ من الصفر، يلوّح بسيفه لكسب لقمة العيش من جديد
إذًا، أيفرّ؟ أهذا حقًا ما ينبغي فعله
«إن فررتُ، فأين أذهب»
لا مكان يذهب إليه. وحتى إن أخذ المرتزقة وفرّ عبر المحجر، إلى أين يتجهون بعدها
هل يعبرون الحدود
نعم… بالتأكيد. رحلة بلا تخطيط تعادل الانتحار
ومع ذلك، خبرته الطويلة كمرتزق تخبره أن الفرار يمنح فرصةً أكبر للبقاء
«اللعنة»
انفلتت الشتيمة من فمه على السجية
عندها دوّى صوتٌ قريبًا منه
«ما اسم ذلك الرجل مجددًا»
«دويتشه»
كان الصوت عائدًا لبطل ليلة الأمس، قائد الفصيلة المجنون ذو الشعر الأسود والعينين الزرقاوين
ذلك المجنون الذي انقضّ وحيدًا على حشد «النولز» وشطر قائدهم
«دويتشه، افتح البوابة قليلًا»
تكلّم إنكريد
انقبض جبين دويتشه، عاكسًا الاضطراب في داخله. وبجانبه تكلّم كرايس بصوتٍ واضحٍ مُستعدّ
«تذكّر، سلطة الأمر عند قائد فصيلي. نفّذ الأمر فورًا، يا رئيس الأمن»
كان فقط يبيّن ما يجب فعله وما ينبغي حمايته، لكن الأثر كان بيّنًا
لم يستعمل كرايس نبرة متعالية أو قسرية
كان التوقيت مثاليًا
أهناك خيارٌ آخر؟ انظر إلى السلالم، أليس هذا أسوأ وقتٍ مقارنةً بوقت وصولهم الأول؟ وماذا عن أتباع الطائفة؟ لا خيار لديك
خلاصة القول، كان هذا مخرجًا
بالتخلّي عن القيادة يمكن لدويتشه تفادي المسؤولية
ومن جهة كرايس، كان دويتشه بولمان رجلًا عنيدًا لكنه طيّب
«لو أنه تخلّى مبكرًا لكان أسهل»
أمنُ القرية الرائدة؟ ما قيمة هذا اللقب
تخطيطٌ للمستقبل؟ هذه مقامرة. كم قريةٍ رائدة سقطت بهذا الشكل
خصوصًا في مأزق متشابك كهذا
لو كان الأمر بيد كرايس، لكان نهب القرية مع مرتزقته وفرّ منذ زمن
حقًا
لكن بالطبع، لم يستطع كرايس فعل ذلك
فإن فعل، قد تصير يدُ إنكريد أو قدمه نصلًا عليه
فالقائد حقًّا ملتزمٌ بإنقاذ الناس
وفكّر في ذلك فأحسّ كرايس ببعض القلق. للرجل ميلٌ لفعل أشياء غريبة
يكفي أن تنظر إلى هذا الوضع — ما يزال يبيت أمرًا غريبًا
كان ذلك بعد أن دوّى جرس الطوارئ مباشرة
«لن نخرج إلا أنا ولوا وإيستر»
«إلى أين»
«خارج الأسوار»
هذا ما قاله إنكريد وسط دويّ الإنذار
وتساءل كرايس جديًّا إن كان إنكريد قد تلقّى ضربةً على رأسه في قتال الأمس
«أتعلم أنك كدت تموت البارحة»
أومأ إنكريد
«كانت قريبة»
أيُبالي هذا الرجل بحياته أصلًا
«عيونك عليّ»
وما إن خطر هذا لكرايس حتى فتح إنكريد فمه. ولكي لا يتلقّى لكمة صرف كرايس بصره
«ماذا لو كنّا منحوسين اليوم»
«لدينا لوا، أليس كذلك»
ومهما بدت «الضفدعة» — فروغ — مُدهشة، أهي فارس؟ لا، أليست كذلك
لا، ليست كذلك. إذًا فالأمر خطِر
«ابحث لنفسك عن عمل»
إلى هنا بلغ إنكريد. وانتهى الحديث. بعدها كان على كرايس أن يفكّر بنفسه
«القتالُ في الخطّ الأمامي سيتكفّل به إنسانٌ واحد، وضفدعةٌ واحدة، وفهدٌ واحد»
ماذا يستطيع الباقون فعلَه
بوسعهم الهُتاف
«كما يمكنهم الرميُ بالسهام في الأوقات المناسبة»
طرد كرايس الخواطرَ العابرة. حان وقت التفكير بالمهام العاجلة
«إذًا، وبوصفي أتسلّم القيادة، آمركم بفتح البوابة»
قال كرايس
كان إنكريد قد بلغ البوابة سلفًا، يتحدث مع لوا وإيستر المسرعتين إلى جانبه
«لا تموتوا»
تمتم كرايس لنفسه. إن مات قائد الفصيلة، سيصعب على كرايس أن ينجو هو أيضًا
لم يكن كرايس يظن إنكريد رجلًا أحمق
«لا بد أنه يملك خطة»
برغم غرابتها، وثق به كرايس. تذكّر ظهر إنكريد وهو يصدّ عنه الخطر في قلب ساحة قتال
لقد نجَوْا بالكاد حينها
قائد الفصيلة حينئذٍ والآن لا يُقارَن
ليس الأمر مجرّد ترقيةٍ من قائد فرقة إلى قائد فصيلة
لقد ازدادت مهارته. وكان طموحه ليصير فارسًا يبدو أقرب مع سرعته المذهلة في التحسّن
«قلت افتحها! وعصيانُ الأوامر يُعاقَب بقطع الرأس، يا دويتشه بولمان»
غدت نبرة كرايس الآن حادّةً آمرة، نبرةً لم يستعملها أولًا
لم يكن قائدَ مرتزقةٍ ولا إنكريد
هو إنسانٌ ضعيف فحسب، لذا احتاج إلى الاتّكاء على سلطةٍ ما
«ن-نعم، سيدي»
أجاب دويتشه، متخلّيًا عن مهامه ومسؤولياته كرئيس أمنٍ سابق
«اقطعوا رؤوس من يعصي»
وجه كلامه لدويتشه، مع أنه لم يتوقع حقًا أن يُقطع رأسُ أحد
وطبعًا لم يحدث ذلك
بعد قليل صرّت البَكَرَات، وبدأت بوابةُ الجذوع تنفتح
خرج إنكريد ولوا وإيستر
لم تكن اندفاعةً متهوّرةً كالأمس. كان «النولز» ووحوش الضباع — رغم تشكيلٍ ركيك — يحافظون على قدرٍ من النظام، فيما كتلةٌ من «الغول» تنقضّ من جانب
كان التابعُ للطائفة المنحرفة مختبئًا في مكانٍ ما بينهم
وأمام قوةٍ يمكن تسميتها جيشًا، وقف ثلاثةٌ فقط
عند رؤيتهم شعر كرايس بجفافٍ في فمه. ابتلع ريقه، متجنبًا عيون الآخرين
مهما فعلوا، عليه أن يساندهم من الخلف
«هاتوا كل الجنودِ المُجيدين للرماية»
الرماة
«وزّعوا الحجارة حولهم لتكون جاهزةً للرمي»
تحرك الأهالي وسواهم جميعًا وفق أوامر كرايس
استخدموا متراس الجذوع كجدارٍ مؤقّت، واستعدّوا لمواجهة القوة الزاحفة
شعر إنكريد بالارتياح لأن كرايس يتولّى التدبير، فيُعفيه من القلق بشأنه
«لو لا الكنز لوقعنا في ورطة كبرى»
لو لا مهمّةٌ تتعلق بخريطة، لما تورّط كرايس في هذه المهمة
وعندها، ما كان إنكريد ليصطحبه أصلًا
كان سيتحمّل تدبير الأوامر الصغيرة والمهام الجانبية لولا كرايس
أما دويتشه بولمان — سواء كان ذا رمحٍ عريض أو أعمى بعينٍ واحدة — فكان يبدو شخصًا فقد شجاعته
«يبدو كمن ينتظر الموت فحسب»
رأى تلك النظرة كثيرًا — نظرةَ روحٍ منكّسرة
بعد أن لاحظ هذا، صرف إنكريد انتباهه. ركّز على سيفه، وعلى نفسه، وعلى البصائر الجديدة التي اكتسبها
لقد آن أوانها
وأمام بوابة الجذوع طَفَت في ذهنه رؤيا ليلة الأمس
حديثُه مع صاحب العبّارة، واضحًا كأنما وُسِم في ذاكرته، وردّ فعله، وما تلا ذلك
«لقد استعملت حيلة»
قال صاحبُ العبّارة ذلك بلا انفعال
«هكذا جرى الأمر فحسب»
كانت هذه الكلمات تجري في عقله
بدَا صاحبُ العبّارة وكأنه يفهم
كانت العبّارة تهتزُّ صعودًا وهبوطًا وإن لم تكن هناك أمواج
بدا كأنها تعكس حال صاحبها
كيف تجرؤ؟ حيلة؟ مثل هذا الخداع؟
ومع ذلك، شعر إنكريد بسلامٍ في داخله
«مقيَّدٌ بقوانين، هائمٌ عبر الزمن، ستندم على هذا — هذا ليس النهاية»
أنشد صاحب العبّارة مقطعًا كتحذير، فاكتفى إنكريد بالإقرار
ما جدوى التمحّص في كلماتٍ لا يفهم معناها
حتى الآن، وفي الحلم، لم يكن يحلم إلا بالغد
وانتهى الأمر. اختفى صاحبُ العبّارة، ثم بدأ الكابوس
حلم أنه عالق في بئر، يرى القمر يشرق فوقه لكنه لا يقدر على الخروج، يومًا بعد يوم
وفي الحلم خدش الجدران حتى تشقّقت أظافره وتقشّرت وانكسرت، لكنه لم يبلغ الحافة
لذلك كان يضطرب في نومه
«أيّ حلمٍ كان»
سألت لوا فيما كانت البوابة تنفتح
«حلمٌ كان ضوءُ القمر فيه جميلًا»
لم يكذب. كان ضوء القمر فوق فوهة البئر جميلًا، مُسكرًا حتى داخل الحلم
كان ضوءَ قمرٍ لا يحتاج قطرةَ خمرٍ واحدة
«لا يبدو ككوابيس»
«أهو كذلك»
تبادلا بضع كلماتٍ عابرة
«كاو»
أطلقت إيستر صوتًا وهي تنظر إلى البوابة المفتوحة. ولمّا خفض نظره شعر إنكريد بأن إيستر تحدّق إليه
«سأحتاج مساعدتك ثانية اليوم»
لم تكن إيستر فهدةً عادية. كان ذلك واضحًا
وماذا عنه هو
«هه»
أخذ نفسًا عميقًا واستعاد ما تعلمه
أوه، هناك أمرٌ عليه التحققُ منه أولًا. كاد ينساه
«لوا»
«تكلّم»
«أرينا ما يمكنك فعله»
إلى أي حدٍّ تقاتل «الضفدعة» إذا أُثيرت؟ تذكّر هذه الحقيقة وقال
غغغغ
انتفخت وجنتا لوا
«حسنًا، سأُريك»
تكلمت «الضفدعة»، ثم اندفعت، تركل الأرض فتنفجر التربةُ من تحتها كنافورة. يا لِما يبعثه ذلك من طمأنينة
كان فضوليًا
إلى أي حدٍّ تقاتل «الضفدعة» إذا أُثيرت