الفصل 171
“يومًا ما أردتُ أن ألقاك بهيئتي الكاملة”
تحرّكت شفتا إنكريد برضا
لو اقترب أكثر فقد ينتبه الزعيم، وربما لا ينتبه
أراد إنكريد أن يُظهر وجوده
لم يكن ذلك تنافسًا ولا رغبةً في قتال عادل، فأي تنافس مع وحش
كان مجرّد اختبار
أراد أن يتيقّن مما بناه عبر تكرارات “اليوم” من الجهد
استدار الزعيم، وإلى جانبيه مخلوقان متحوّران كأنهما حَرس، فور سماع صوت إنكريد
لم يكتفِ بالالتفات
رفع خنجرين وأشار بهما إلى الأمام، وكلّ ذلك في طرفة عين
“كما توقّعت، أنت سريع”
انبهر إنكريد
“غوك”
صرخ الزعيم، فاستجاب المتحوّران القائمان كالحَرَس
“غووَك”
كان صوتهما قريبًا من صياح الغول، فقفز أحدهما دفعةً واحدة، وفي اللحظة نفسها هَوى بهراوة من فوق
رفع إنكريد سيفه الملطّخ بالدم الأسود قطريًا
سقطت الهراوة الثقيلة من علٍ تصفِر في الهواء، وتشوّش بصر إنكريد لحظة
وقبل أن ترتطم الهراوة برأسه تحرك السيف
لا، تحرّك الجسد كله
طَقّ
لوى نصله وضرب منتصف الهراوة ودفع إلى الأمام، فتقشّر سطحها كأن إزميلًا قشطه
اندفع سيف إنكريد إلى الأمام وشقّ عنق المتحوّر
قطع الهجوم عنقه مخترقًا العضلات والعظم والأوتار
ولما انفصل عنقه أطلق المتحوّر صوتًا كخروج الهواء
ومع انهياره على ركبتيه خمد بريق عينَيه الصفراوين ثم سقط إلى الأمام
بغضّ النظر عن مصير الأول، اندفع الثاني نحو إنكريد، فموّه إنكريد بسيفه ثم مال يسارًا متفاديًا الهراوة وقاطعًا أفقًا
بالتفاف معصمه رسم نصف دائرة بسيفه، قاطعًا منتصف رأس المتحوّر
لقد أنتج الجمع بين القوة الخام والمهارة هذه النتيجة
انقسم رأس المتحوّر نصفين كقرعةٍ نُزِع غطاؤها
لكن بدل البذور واللبّ كان الرأس ممتلئًا بمادّة دماغية ودمٍ أسود
سقط الجزء المبتور من قمة رأس المتحوّر على الأرض
“إن هربتَ فستموت وهذه مزروعة في مؤخرّة رأسك”
قال إنكريد وهو ينفض يده، فانطلق خنجر صافِر واستقرّ عميقًا في رأس متحوّر عادي تردّد في الاندفاع
غاص الخنجر حتى كاد يُخفى، لكن الدم اندفع نافورًا
تداعى المتحوّر على قفاه ينزف بغزارة من رأسه
غوشش
ولما استشعرت البقية خطر زعيمها تحرّكت، وكان إنكريد يأمل أن يواجهه الزعيم بنفسه
لم يبلغ هذا الحد من قبل
فكان اليوم خبرة جديدة
لا يدري ما سيحدث، قد يتراجع الزعيم
فماذا بعد ذلك؟ سيطارده فحسب ويزيّن رأسه بسكّين رامية
وأمّا إن هاجم
“هل أستطيع النجاة اليوم”
سأل نفسه، وما زال الجواب غير محسوم
كان متفائلًا، مستعدًا، وقد قاس خصمه
لكن مآلات القتال دومًا غير يقينية
وفوق ذلك لن يظهر الزعيم إلا إن أصيب إنكريد إصابة جسيمة كتجويف في الفخذ أو جرح خطير عند السرّة
لم يكن يخرج إلا حين تُقيَّد حركة خصمه أو يُجرَح جرحًا بالغًا
“يا له من ماكر”
كانت مجاملة على طريقتها، فلا يتدخل إلا حين يتيقّن النصر، وذاك ذكاء
ولم يتراجع زعيم المتحوّرين، بل تحرّك كما أراد إنكريد
“غرووك”
انفجر صوتٌ مباغت، دلالة على سرعته الفائقة
مع أنّ إنكريد استعدّ، فقد كانت السرعة مذهلة
ركل الزعيم الأرض فامتدّ جسده ظلًا في شمسٍ واطئة
وكان ذلك الظلّ ممتدًا مرئيًا لإنكريد، فلم تفقد عيناه خصمه لحظة
الرؤية ممكنة دائمًا
المشكلة كانت في التصدي لشيء بهذه السرعة
لا يجوز أن تمسّ خناجر الزعيم اللامعة حتى جلده
كانت مسمومة، لمسة واحدة وتنتهي الحكاية، ثم يعود “اليوم” يتكرّر
سِسق سِست
خدشَت الضربة الأولى كتف إنكريد، خدشًا لا غير
لم تمسّ الجلد أصلًا، ودروع إنكريد ليست مما يثقبه خنجر تافه بسهولة
لم يَبدُ سوى قَطعٍ في الجلد الخارجي للدروع
وتجنّب الضربة الثانية تمامًا
ضرب الزعيم بيمينه ووجّه طعنة بيساره، لكن إنكريد لوى جسده فطعنت اليسرى الفراغ
كانت سرعة استجابته لافتة
لحظة رؤيته للحركة تحرّك جسده
كان الهجوم شبيهًا بأسلوب السيف المزدوج لفالين، ومع اختلاف الإيقاع فقد كان بالغ السرعة حدّ الخوارق
“ينجح”
كما توقّع، يمكنه أن يتفاداه، وإن تعذّر تفادي الخدش، أمكنه الحيلولة دون القطع والطعن
“حسّ المراوغة”
بدا كأنه تدريب على تسريع الاستجابة أكثر من كونه حسًا مجردًا
هذا ما أحسّ به
كأن الاسم لا يفيه حقّه، وسرعان ما انقشعت الخاطرة العابرة
وعلى أي حال، إن ركّز على المراوغة كليةً فربما تمكن حتى من تفادي الخدش
لكن هل ثَمّة حاجة لذلك؟ على الأرجح لا، لقد آن أوان التقدّم
لقد جاء اليوم الذي ينجو فيه من “اليوم” ويرى شمس الغد
“كرووك”
استشاط زعيم المتحوّرين غيظًا، وانعكس ذلك في احمرار عينيه، كأن حمرةً تلتمع في الحدقة الصفراء، اندفع متجاوزًا إنكريد ثم استدار ليهجم ثانية
هذه المرّة خفّض قامته واستهدف فخذي إنكريد، وكان مسارًا عسر المراوغة، حتى إن أحد الخنجرين بدا مصوَّبًا إلى داخل مفصل الورك، والخنجران يتقاطعان بإيقاعٍ متناسق
حركة خاطئة وقد يُخصى الرجل
لم ينتظر إنكريد ليرى ويستوعب ثم يرد، بل تحرّك لحظة رأى وأدرك
وكان ذلك فرقًا صغيرًا لكنه حاسم
وكان هذا شبه أول استخدام له في اشتباكٍ بالسيوف
كانت سرعة استجابته، وقد بُنيت على التنسيق، هي المفتاح
عالم جديد
خطوة إلى عالم جديد
هكذا شعر إنكريد على الأقل
أحدث فرقُ سرعة الاستجابة فرقًا في ردود الفعل
وأبان الجسد، وقد صُقِل بتقنية العزل على الدوام، هذا الفرق في الإدراك
وفي اللحظة التي رأى فيها الحركة أنزل سيفه
هووش طَق شَق
وبينما يندفع زعيم المتحوّرين شقّ النصلُ الهواء عموديًا كلمحٍ خاطف
وبالطبع لم يشقّ الهواء وحده
طَقّ
ومن قِمّة رأس الغنول إلى منتصف ظهره شطره النصل
واصلت يدا الزعيم حركاتٍ خائبة، يمدّهما لا يدري أنه مات
طعنت اليسرى فراغًا، أما اليمنى فاستهدفت ناحية ورك إنكريد كما خُطّط لها
ثنى إنكريد ركبتيه واستعمل درعه لامتصاص طعنة الميت
هَدّة
فإذا مات المرء خارت يده من القوّة
وتساقط الخنجر عن الجلد الجلدي بلا حول
ومع أن جسد الزعيم قد شُقّ نصفين واصل حركاتٍ آلية ثم انهار شطرين عن الجانبين
اندفعت أمعاؤه ودمه إلى الأرض، وكان الشقّ سريعًا حتى إن الدم رشّ خلفه خطًا مستقيمًا
كان ينوي شطر الرأس، لكن الزعيم تفادى بغريزته
فجاء القطع مائلًا من الكتف شاطرًا إياه نصفين
“هوآه”
زفر إنكريد وشعر بدفقة نشوة
“أنا أتقدّم”
كانت فرحة النمو، لحظةً تشهد النتيجة عليها
باستخدام حسّ المراوغة تفادى الخنجر المسموم وشقّ العدوّ بضربة واحدة منسّقة بفضل تدريب سرعة الاستجابة
وقبل ذلك كان قد تتبّع حركة خصمه بعينيه، ومنحه قلب الوحش الشجاعة
“غرووووك”
وبالطبع لم ينتهِ الأمر، فما زال المكان غاصًا بالغنول والوحوش
والآن المشكلة هي كيف يخرج
“هاه”
بصَحوةٍ صاح إنكريد وهو يلوّح بسيفه بقوة نحو غنولين يسدّان طريقه
أسلوب السيف القويم؟ لا وقت لدقّته الآن
لقد تعلّم أفضل فنون السيف لصرع الوحوش
فنون الشمال بالسيف
يُقال إن الشمال أرض قاسية تجوبها الوحوش والبهائم بحرية
فتطوّرت سيوفهم إلى أنسب صورة لاصطياد الوحوش
وقد تعلّم إنكريد ذلك الأسلوب
هووش قطع طَقّ
وبقوة طرد مركزي متقنة انقسم الغنولان إلى علوي وسفلي
لا اجتماع بعدهم
ولما شطر الاثنين بدأ إنكريد يعدو
“هل أستطيع الخروج”
تفاديهم طوال اليوم؟ ممكن
لكن الهرب بعد إنهاك النفس بالقتال
ذاك عسير، وقد تعلّم بهذه التجربة أن صون الطاقة حاسمٌ في المعارك الطويلة
غير أنه الآن زحف ليبلغ زعيم الغنول وخاض قتالًا قصيرًا حادًا
وعليه الآن أن يشقّ طريق العودة إلى القرية الأصلية؟ هذا غير مسألة المراوغة والثبات مكانه
“ألا يمكن أن نلتقي غدًا فحسب”
تمتم إنكريد وهو يراوغ، عارفًا أن السؤال عبث، وبديهيّ أن الغنول لا يجيبون
وجاء الجواب من وحش ضبعٍ هاجم من الخلف بفمٍ فاغر يستهدف ظهره، فردّ إنكريد فورًا بضربة كوع إلى رأسه
هَدّة
سقط الوحش مصروعًا بضربةٍ مباشرة
وفي حركة واحدة غرس إنكريد سيفه في رأس الوحش
وفي اللحظة نفسها اندفع نحوه وحشان آخران وغنول، فلوّح بسيفه أفقًا بيسراه
تقهقر الغنول الذي يرتدي شيئًا كدرع جلدي خطوات بعد أن أصابته الضربة
لم يستطع إسقاطهم بضربة واحدة
كان يلهث ولم يقدر أن يسكب ما يكفي من القوّة في الضربة
وكانت قامته مختلّة، وكذلك بسبب استعمال قلب القوة الكبرى في القتال
“هذا صعب”
إن جاوز الحدّ ارتجفت يداه
وبالطبع تكفي استراحة قصيرة
لقد آن وقت رقصةٍ أخرى مع حسّ المراوغة
“غوووغو”
بدت صيحات الغنول كأنها تقول اقتلوه، اقتلوا هذا البشري
استعاد إنكريد سيفه بهدوء وحرّك قدميه
يتفادى ما يجب تفاديه ويصدّ ما يجب صدّه
بدت حركاته كأنه سيّد هجومٍ ودفاعٍ معًا
ولو رآه أحد من بعيد لظنّ ذلك، لكن تلك الحركات الدقيقة لا تُرى من مسافة
وكان إنكريد يحسّ بالرضا بعد قتل الزعيم
ومع النشوة كان كأنه يقلب الخطة التي وضعها الملاح رأسًا على عقب
كيف أمكن هذا
ما العائق الأصلي
في ذهن إنكريد كان العائق قتالَ مخلوقٍ برأس ضبع يلوّح بخنجر مسموم مع المجازفة بإصابة
لا، بل الفوز دون أن يخدشه الخنجر المسموم أصلًا
وقد لوى إنكريد ذلك المسار
هل كان استحالةً أن يظفر بالزعيم بلا إصابة؟ لا، كان ممكنًا، وكان ذلك طريقًا متاحًا أيضًا
لكن لم يشأ أن يسلكه
حتى لو كان ذاك هو العائق المرسوم سلفًا
“ضحكته مزعجة إلى هذا الحد”
لم يُعجبه ضحك الغنول، ومع أنه مدح الزعيم لمكره في عدم الظهور قبل التحقّق من جرح قاتل، فإنه لم يستسغ ضحكه
فما العمل إذًا
فكّر قليلًا، ولم يحتج إلى مساعدة كرايس
كانت مهمّة بسيطة أكثر مما ينبغي
أغلق المدخل، أمسك المتراس، واقتل الزعيم، كل ذلك كان مقصودًا، وكانت هذه هي النتيجة
الزعيم مات، ولم يُقتل أحد من قرويّي الطليعة على يد الغنول أو وحوش الضباع
وإن مات أحدٌ بحجر مقذوف فلا حيلة في ذلك
على الأقل من منظوره لم يمت أحد بهذه الطريقة
لم يكن الأمر حمايةً لأهل قرية الطليعة
لقد آل إلى ذلك مصادفةً
ولو لزِم سببٌ فهو ببساطة أنه لم يحتمل ضحك الغنول
وقبل كل شيء كان هذا أنجع من القتال مع الإصابات
وبالطبع إن أراد أن يختم الأمر ببهاء فعليه أن يحسن إنهاءه هنا
بعبارة أخرى، عليه أن ينجو
حافظ على نَفَسه وقوّته
وبعد أن فشل في فتح الطريق ببعض تقنيات السيف الشمالي عاد إلى ضربات أبسط، ومع ذلك بقي الطريق مسدودًا
كانت لحظة حسم، أيصمد مترقّبًا فرصة أخرى
أم يسكب ما بقي من قوّته ويُطلِق قلب القوة الكبرى ليقتحم بالقوّة
لم يبدُ أيٌّ منهما خيارًا عالي الاحتمال، وقد شعر إنكريد بذلك فطرةً
لكن لم يبدُ أن هناك طريقًا ثالثًا
وفي غمرة التفكير الوجيز
“افتحوا الطريق”
ما هذا
جاء الصوت من جهة مدخل القرية، إذ فُتح بابها الخشبي الثقيل فصار ممرٌّ واضح
وبفضل الجلبة التي أحدثتها إيستر وإنكريد حوّل حشد الغنول نظره بعيدًا، فخلت البقعة أمام البوابة
ولمّا عجز دويتشه بلمان عن كتمان نفسه بعد أن رأى كل شيء يجري أمامه خرج إلى الخارج
“من أراد اللحاق فليخرج، ومن سيجبن فليترك عُدّته ويمضِ إلى الجحيم”
كانت دعوة تليق بقائد مرتزقة، فمَن يخاف على حياته كيف يصير مرتزقًا
واندفع أعوان دويتشه جماعاتٍ كثيرة
ولوّح دويتشه بلمان بسيف الرمح بقوةٍ وقد خرج من القرية
وخلفه تبعه عشرة من اليقظين رافقوه منذ أيّام المرتزقة