الفصل 21: أربع خطوات تكفي
«هاهاهاهاها»
دوّى صوت ضحك أبي في القاعة الكبرى
«هل فكرة قتل الناس أمرٌ يُضحَك له»
توقّف أبي عن الضحك وتكلّم بحسم
«تقدر على قتل سيّد الشياطين، لكنك لا تقدر على قتل شيطان شقّ الدماء»
قال إنك لا تقدر على قتله بعد
«إذًا لِمَ جعلتَني أتصادم مع شيطان السماء الدامي؟ تحمّل المسؤولية»
«سأتولّى مسؤوليتها»
قالها ببرودٍ كما أجاب
«سأُسنِد إليك ولاية هوانغتشونجو»
صُعقت، لم يخطر ببالي قطّ أن يُعيّنوني على هوانغتشون
«أهذا ممكن»
طبعًا لا مستحيل مع إرادة الشيطان السماوي
«أيمكن لمحقّقٍ واحد أن يقتل سيّد الشياطين»
وإذ مضت الأمور هكذا خطر لي أن أبي ربما فكّر أصلًا في تنصيبي سيّدًا على هوانغتشون
«قلتَ إنك تريد ضبط سلوكك، أليس كذلك»
سمعتُ كلماته بهذا المعنى
سأعطيك سيفًا، فانطلق واصنع الفوضى
وبصياغةٍ أقسى: صِرْ درعًا وحاملَ سيف
هناك أمورٌ كثيرة يصعب على الأب أن يتقدّم لها بنفسه، أمّا إذا كنتَ أصغر أبناء الشيطان السماوي المتهوّر
«أتريد أن تستخدمني لإنجاز ما أجّله أبي؟ لا يهمّ إن متُّ أم عشت»
لم أستطع الجزم أهي قسوةٌ بلا قلب أم اختيارٌ وُلد من قرارِ إعدادي للوراثة، حسنًا، لا داعي لأن أنفعل
ما قاله أبي ذات يومٍ صحيح
«عقل الإنسان شيءٌ لا يُعرَف أبدًا»
لا تحاول قراءة النوايا، احكمْ بما ترى وتسمع، فأنت تحكم على الواقع الجاري لا على ما في رأس الآخر
هكذا كان أبي أصلًا، يترك عباراتٍ على الجدار لأبنائه، ويلقي بهم في الأخطار إن رأى فيهم نفعًا
والحقّ أنني مرتاحٌ لأبٍ كهذا، فما عليّ إلا أن أفعل ما يريد وأحصل على ما أحتاج
«إذا بعثتَني لذبح بقرة فلا بدّ أن تعطيني سكينًا»
«ما الذي تريده»
خرج من فمي اسمُ مكانٍ عليّ أن أزوره بعد الرجوع
«أدخلني تشونما سيوغاك»
كانت «تشونما سيوغاك» موضعَ حفظٍ لآثار فنونٍ قتالية نفيسة، ولا يدخلها إلا قلّةٌ مأذون لهم ومنهم الشيطان السماوي
«ولماذا تشونما سيوغاك»
ارتسم على وجه أبي ما يدعو للاستغراب
«إن ظننتَ أنك بتلك الزيارة ستتعلّم فنَّ ادّخارٍ يُنقذك فأنت واهم، لن تنال سوى قراءة عناوين بلا تصنيف»
تلك كانت مساوئها، وحتى لو حالفك الحظ وعثرتَ على أفضل تقنيةٍ قتالية فمستواها شبيهٌ بمستوى «سيوف بيشون» التي أتقنتُها
كانت في عينيه ريبةٌ وتأنيب: «لا يعقل أنك لا تعرف هذا»
«أريد أن أجرب حظّي»
وسيتساءل أبي حتمًا، ما النية وراء هذا
حدّق فيّ لحظاتٍ ثم حسم أمره
«لا أدري ما النية السيئة التي تُضمِرها»
وبعد عبارةٍ كان تركُها خيرًا، منح الإذن
«يُسمح لك بدخول تشونما سيوغاك سبعة أيام»
«شكرًا لك يا أبي»
سبعةُ أيام، وهذا زمنٌ غير مسبوقٍ لمن لم يُعتمَد وريثًا بعد، وهو يدل أيضًا على أن إسناد هوانغتشونجو إليّ أمرٌ جلل
«تعاليم مدرستنا تملي أن ننتظر سبعة أيام فحسب»
كانت «إيان» متحمّسةً جدًّا لدخولي تشونما سيوغاك
«سيدي، حين تدخل تشونما سيوغاك ركّز على حفظ فنٍّ واحد قبل أن تخرج، إن أطمعك كثرةٌ خرجتَ بلا شيء، كُل جيّدًا، إن أسقطتَ الوجبات لتوفّر وقتًا خسرتَ لأن ذاكرتك ستضعف، آه، وهو واسعٌ جدًّا قد تتيه فيه…»
وأنا أراها تثرثر بلا توقّف راجعتُ نفسي
في ذكرياتي كانت «إيان» هادئةً جدًّا
كم هي ثرثارة
لا بدّ أنني كنتُ آنذاك كذلك، أحدّق في سقف «تشونماجون» ملتحفًا شهوةَ أن أصير وريثًا، والذين سيُعينونني على حلمي واقفون أمامي
لهذا ربما صارت «إيان» صامتة، أنا من جعلتُ هذه المرأة المرحة الثرثارة هادئة
«هل سمعتني»
«سمعتك، ركّز على أمرٍ واحد وكُل جيدًا»
«ونَمْ جيدًا، حسنًا، آمل أن تُفلح، لا تنسَ، دخولُ جناح الشيطان السماوي فرصةٌ سماوية لمن ليس وريثًا»
«آخ، أذناي تنزفان، لعلّهما التأمتا بالفعل»
«آسفة، سأُقلل الكلام من الآن»
«لا، حمايةٌ صامتة مكتئبة أسوأ»
«إذًا رجاءً احفظ كلامي، وهناك أمرٌ آخر يجب أن تفكر فيه حين تبحث عن سرٍّ…»
«رجاءً»
في الواقع لم تكن «إيان» بحاجةٍ لكل هذا القلق
لأنني أعرف على وجه الدقّة إلى أين أذهب في ذلك الجناح الفسيح
ولشرح سبب دخولي «تشونما سيوغاك» لا بد أن أعود إلى زمن البحث عن «بيما سُول»، آخرِ مكوّنٍ في طريقة الرجوع
عدتُ إلى «ديانة الشيطان السماوي» بعد إغلاق الأبواب بحثًا عن «بيما سُول»
شوّهتُ وجهي ندوبٌ عميقة حتى لم يعد يُعرَف، ولم يعرفني أحدٌ لأنني ميتٌ أصلًا، ومرّت عقودٌ منذ غادرتُ الديانة، وملامحي تغيّرت
ترقّيتُ من محاربٍ عادي إلى مقامٍ أقف فيه وحدي قبالة القائد الجديد بجهدي، وقد استغرق ذلك زمنًا طويلًا جدًّا
وفي عامي الأخير الذي أنقذتُ فيه «بيما سُول» سمعتُ قصةَ فنٍّ قتالي
«كنز الريح السماوية الأربعة»
والذي حاز «بونغشِن سابو» كان «جو بايك-دو» قائد «ديانة بونغمون» يومها، ويمكنك أن تتصوّر كم اضطربت الديانة وقد تغيّر قائدها ستّ مراتٍ في العقود التي تلت الإغلاق
وأذكر ما قاله لي في الحانة
«…تمكنتُ من أن أصير قائدًا لأني وجدتُ «بونغشِن سابو» المفقود»
«بونغشِن سابو»
أفضلُ مشيةٍ قتالية بالاسم والواقع، مؤلّفةٌ من أربع صيغٍ فحسب
قيل إنها وُضعت قديمًا لتُعين فنون الشيطان السماوي، ثم أُهملتْ يومًا ما ولم تُورَّث، لكن «جو بايك-دو» ظفر بها
«… تعرّض القائد السابق وذووه لكارثةٍ مفاجئة، وأُهملت «الفنون الشيطانية النارية التسع»، ولحسن الحظ لم يُجرف سوى «تشونماجون»، فاستطعنا زيارة المعبد وقوةُ المدرسة باقية، ومنذئذٍ اضطربت مدرستُنا على منصب القيادة، ولولا أنني حصّلتُ «بونغشِن سابو» لظلّت المدرسة في فوضى وانتهت بثورةٍ داخلية»
لقد ارتقى إلى مقام القائد بإضافةِ مشيةٍ واحدةٍ إلى فنونه، وهذا يريك كم كانت «بونغشِن سابو» باهرة
«وأين وجدتَ كنز الريح السماوية»
«في تشونما سيوغاك، كنتُ وقتها قيّمًا على إدارته»
«إذا كان هناك سرٌّ ثمين فلماذا شاع أنه أُهمِل»
«لأنه لم يكن على الرف»
«…»
لو لم أشرب معه ذاك اليوم، ولو لم يكن مزاجه رائقًا، ولو لم يسكر فيتباهى بمغامراته، لما عرفتُ موضع «بونغشِن سابو»
كان «تشونما سيوغاك» أكبرَ مكتبة رأيتها في حياتي
تسعةٌ وتسعون رفًّا عظيمًا ملأت المكتبة، حافلةً بمدوّنات الفنون القتالية، ونفائسُ عالميةٌ تخلب قلبَ الناظر، وهي خلاصةُ ما راكمته مدرستنا عبر زمنٍ طويل
سرتُ ببطءٍ بين الرفوف أتلذّذ برائحة الكتب العتيقة، والرفوف تكتظّ بأسرار الفنون حتى خُيّل إليّ أن سبعة أيام لا تكفي لقراءة العناوين
لكنني لستُ بحاجةٍ إلى البحث عن إبرةٍ في رمال
«هنا»
توقّفتُ أمام الرف التاسع عشر
هنا تُحفظ نقوشُ فنونٍ موسيقية، وبالطبع لا أنوي قضاء حياتي في الموسيقى
لم أنظر إلى الرف بل إلى أسفله، فقد سُنِدَ من أحد جانبيه بكتابٍ ليعادل انخفاضه من ثقل الكتب
رفعتُ الرفَّ قليلًا بقوةٍ داخلية وسحبتُ الكتاب المُسَنِّد تحته
وخرج إلى الدنيا سرٌّ قديم كُتبت على غلافه أربعُ كلمات
«خطوات الريح السماوية الأربع»
«كنتِ هنا حقًّا»
طفرت بي البهجة
وتذكّرتُ حديثي القديم مع «جو بايك-دو»
«لأن «خطوات الريح السماوية» لم تكن على الرف»
«فأين كانت إذًا»
«ذاك الكنز الثمين كان يُستعمل قاعدةً للرف التاسع عشر»
قال إنه اكتشفه بدافع هوسه بالنظام، فهو ممّن يصفّ أعواد الأكل أبدًا باستقامة، وإذا طوى ثوبه طواه بإحكامٍ بلا خطأ، ولا يقدر على الأكل إذا كان كوبُ ماءٍ على طرف المائدة خوفًا من سقوطه
وفي «تشونما سيوغاك» لاحظ اعوجاج قاعدة الرفّ فاكتشف السرّ وهو يحاول تسويتها
لا أعرف لِمَ صار هذا الأثر قاعدةَ رف، ولا «جو بايك» الذي عثر عليه كان يعرف
لابد أن وراء ذلك قصةً خفية قديمة
حادثةٌ اقتضت إخفاء أفضل كنزٍ في العالم هنا، قد تكون صراعَ وراثة، أو ثمرةَ حبٍّ خاطئٍ لشيطان سماويٍّ عظيم، أو نزوةَ طموحٍ أعور
ومهما يكن فقد وصلتُ أنا و«بونغشِن سابو» بخيطٍ من القدر
فتحتُ الصفحة الأولى بحذر
وقبل المتن سطرٌ واحد كُتب بفخرٍ فجعل قلبي ينتفخ
«أربعُ خطواتٍ تكفي لتجوب العالم»
نعم، هذا هو، من ينافسُ على الأفضل في العالم لا بد أن يتكلم بهذه الجرأة
كان «بونغشِن سابو» مؤلفًا في الجملة من أربع صيغ
«خطوة الظل»
و«خطوة اللمح»، و«خطوة الملك الساطع»
و«خطوة الاندفاع»، أمّا الأولى
«خطوة الظل»
فمشيةُ تسلّلٍ تُستعمل عند الولوج إلى مكان
تبدأ بتجنّب عينٍ واحدة، ثمّ كلّما ترقّيتَ ازداد عددُ من تتجنّب عيونهم، وإذا بلغت ذروتها غِبتَ طرفةَ عينٍ ولو كان العشراتُ يحدّقون
والثانية «خطوة اللمح» خطوةُ دفاع، تُفَتِّش عن منفذٍ حين يجيء هجومٌ لا يمكن تفاديه إلا بحيلة
والثالثة «خطوة الملك الساطع» خطوةُ اختراقٍ نحو الخصم، ووصفت بأنها تُبطِل أيّ دفاعٍ أو تفادٍ
وكأن «خطوة الملك الساطع» تقول
سأفتح لك الطريق إلى الجحيم، فاتبعني
ولذلك كانت «خطوة الملك الساطع» و«خطوة اللمح» متناقضتين حقًّا، فإذا اصطدمت طريقتا الأساس، التفاديُ والحفرُ، انكسر الرمحُ أو ثُقِب الدرع بحسب مقدار صاحبهما
والأخيرة «خطوة الاندفاع» فنّ خفّةٍ يُظهِر أين تنتهي السرعة، وكلّما علتْ مرتبتها ضاق وسطُ السهول، وكنتُ واثقًا أن «الاندفاع العظيم» سيُري حركةً تتجاوز حدود البشر
في الخلاصة كان «بونغشِن سابو» يقول
تسلّل، وتفادَ، واهجمْ، واجرِ
أليست هذه أربعَ خطواتٍ كافية حين تتعامل مع خصم
جلستُ في ركنٍ من «تشونما سيوغاك» أحفظ الأبيات التسعة بهدوء
التزمتُ نصيحة «إيان» بوفاء، فأكلتُ لحمَ المجفف الذي أحضرتُه كلَّ وجبة، ونمتُ نومًا طيبًا حين يحين وقت النوم، وبذهنٍ صافٍ صببتُ بقيّة الوقت في «بونغشِن سابو»
كان عمقُ المتن عميقًا كالبحر، ومعناه عريضًا كالسماء
إنه فنٌّ صيغ ليُستعمل بتعديلٍ وفق الحال على أساس تقنيةٍ واحدةٍ بديعة، ولذلك كان فهمُه أعسر من فنونٍ بُنيت بإحكامٍ على عشرات الصيغ، ولولا عمري قبل الرجوع لما بلغتُ هذا العمق
ألهذا السبب اختلفتْ قراءتي الأولى عن الثانية، والعاشرة عن السابقة
وهكذا فقدتُ الإحساس بالزمن ووقعتُ في حبّ البنية
بعد سبعة أيامٍ من دخولي «تشونما سيوغاك» كنتُ قد حفظتُ أبيات «بونغشِن سابو» كاملًا وصرتُ أستطيع بسطها، وكنتُ طبعًا عند مرتبة «نجمٍ واحد»، ولم يبقَ إلا أن أرفع رتبتي بالتدريب الموصول
مزّقتُ أهمّ جزءٍ من الكتاب وابتلعتُه، وأعدتُ بقيته تحت الرف، فتبدّل دور «بونغشِن سابو» من أفضل كنزٍ في العالم إلى قاعدةِ رف
لا أريد لِمحظوظٍ آخر أن يجيء فيتعلّم «خطوات الريح السماوية»، وهذا صِدقُ رغبتي
ثم خطوتُ خطواتي الأولى خارج «تشونما سيوغاك»