الفصل:326
في شتاء الإقليم الشمالي القاسي، كانت بيوت القباب في مدينة المدّ الأحمر دافئة كربيع لطيف
جلس برادلي معتدلًا، مطبقًا كتفيه ببطء، وانبعث طقطقة خافتة
تمتم متذمرًا: يا للعناء، هذه العظام العتيقة تزداد قلة تعاون مع الأيام، ثم التقط ردائه عن حافة السرير وارتداه، ومضى يُعد كوبًا من الشاي الدافئ بلا عجلة
صار الاعتناء بصحته عادة يومية، لا طلبًا لطول العمر، بل ليعالج الأمور كل يوم بصفاء أكبر
كان هذا الشيخ الذي تجاوز الستين خادمًا كبيرًا سابقًا لدى أسرة كالفين في المقاطعة الجنوبية الشرقية، وقد تعامَل مع النبلاء عمره كله
كان ينبغي أن يتقاعد قبل أربع سنوات ويقضي بقية عمره الهانئ في كنف أسرة كالفين
غير أنه، وبأمر من الدوق كالفين، شدّ الرحال إلى الإقليم الشمالي للتحقيق في منجم نخاعٍ سحري
وحين بلغ أراضي اللورد لويس، وجد أن هذا السيد الشاب، الذي كان حضوره سابقًا باهتًا، يمضي على ما يرام، وإن كانت في المنطقة ثغرات كثيرة وفوضى لا يُستهان بها
كما إن لويس طلب منه بنفسه أن يبقى ويساعد في تطوير إقليم المدّ الأحمر
ظن برادلي في البداية أنه سيساعد الشاب سنة أو سنتين على الأكثر، ثم يعود إلى الجنوب الشرقي ليتقاعد بعدما يثبت الشاب قدميه
لكن الإقامة امتدت إلى أربع سنوات
شهد ذلك الشاب، لويس، وهو يواجه الأزمات وحده وسط الثلوج الكثيفة والأوبئة والاضطرابات
ورأى كيف جُمِع فريق من اللاجئين والعبيد والجنود المنهزمين ليصيروا مدينة النظام التي يراها اليوم
ورأى كيف تحوّل خلال سنوات قليلة من بارون طليعي إلى إيرل، بل إلى الحاكم الفعلي للإقليم الشمالي
ودون أن يشعر، صار هو نفسه كبير مُشرفي مدينة المدّ الأحمر، لا يعلو مكانته في المدينة سوى سيد المدّ الأحمر وزوجتيه
هتف في نفسه: آه، الدنيا تقلبات، ويا للعجب
أنهى برادلي شايه، ودلّك أسفل ظهره المتيبس، وفتح الباب وغادر الغرفة
ظل الجليد والثلج كثيفين في الإقليم الشمالي، والبرد لاذعًا، غير أن مدينة المدّ الأحمر كانت مختلفة
فقد أبقت أنابيب الحرارة الأرضية المستمدة من باطن الأرض، مع بيوت زجاجية من طراز سلحفاة الظهر الناري، حرارة الشوارع فوق معيار الشتاء
لا يمكن وصفها بأنها دافئة مُزهرة، لكنها على الأقل تمنع الناس من الارتجاف من شدة البرد
وما إن خرج برادلي إلى الشارع حتى كان فارسان شابان من فرسان المدّ الأحمر ينتظران عند بابه، يستعدان لقيادة حصانه وتمهيد الطريق له. أدّيا التحية قائلين: يا لورد برادلي، العربة جاهزة. ما برنامج اليوم
ابتسم ابتسامة خفيفة: همم، أولًا إلى منطقة التخزين لنفحص المخزن الرئيس واحتياطي اللحم المملّح، وعلى الطريق نؤكد ما إذا كانت الموافقة على الدفعة الثالثة من الفحم قد صدرت
ثم نعرّج على المستوصف لنرى إن كان اللاجئون الوافدون حديثًا قد استقروا
بعد ذلك إلى مركز التدفئة. في الآونة الأخيرة لم تكن مجموعة أنابيب حرارية في الحي الشرقي مستقرة؛ لقد بلّغ أحدهم أمس بأن الحرارة لا تصل إلى أبعد البيوت الزجاجية
أوه، وتذكّرا أن تحجزا لي قاعة الاجتماعات الصغيرة في المكتب الإداري قبل الظهر. لدينا خطة تفعيل حراثة الربيع وتجهيزات مهرجان الربيع
عدّل برادلي عباءته وأطلق مزحة صغيرة أخيرًا: هذا كل شيء. هيا بنا. البرد قارس والأرض زلِقة، بلّغا السائس أن يقود على مهل. ما زلت أرغب في أن أعيش بضع سنوات أخرى
بلغت العربة الشارع المركزي. كانت شموع طقسية معلّقة في نوافذ البيوت على امتداد الشارع، غالبًا أُضيئت منذ زمن، وما زالت تلمع بذبالاتها الأخيرة
كانت المحطة الأولى منطقة التخزين، وهي صف من مخازن شبه أرضية غير بعيدة عن المدينة الداخلية
دخل برادلي، الخبير بالمكان، غرفة التوزيع، وهناك كان عدة ضباط مناوبة يرتبون سندات التوزيع لليلة السابقة
لم يحتج أن يقول الكثير؛ فما إن مدّ يده حتى ناوله أحدهم قائمة على الفور
بلغ توزيع الفحم أربعة وتسعين بالمئة، وبقيت حصص الأحياء مستقرة، وما تبقّى من الاحتياطي المرن لا يزال وافرًا
وقف برادلي أمام الطاولة الطويلة في قلب منطقة التخزين، وهو ما يزال يرتدي عباءته، وأخذت أطراف أصابعه تمسح درجًا من رقٍّ
يمكن تبسيط هذه استمارة التعديل الطارئ للشتاء أكثر، بحذف التوزيعات المكررة والسجلات المتضاعفة
وأشار إلى سطر بيانات في أسفل الاستمارة وقال بنبرة هادئة: هناك وافدون جدد إلى المنطقة الخارجية من الحي الجنوبي الشرقي في الآونة الأخيرة. خصصوا عشرة براميل فحم احتياطًا أولًا، لا تنتظروا أن يطلب الناس
أومأ كاتب السجلات بسرعة وهو يسجّل، كأنه يخشى أن تتأخر ريشته لحظة
ثم نظر برادلي إلى قوالب الحبوب واللحوم المجففة وفحم القوالب المرصوصة بعناية في المخزن
كانت منطقة التخزين كلها منظمة جيدًا، لا أثر فيها للذعر، وعليها بطاقات واضحة للأصول والوجهات، ولم يأتِ هذا من فراغ
قبل نصف شهر قبض برادلي على مدير مخزن وهو يبيع خفية قوالب فحم عالية السخونة
كان الرجل جنديًا قديمًا، من الأوائل الذين تبعوا لويس إلى المدّ الأحمر، وقد ارتكب هذه الحماقة بدافع الطمع
بكى واحتجّ وتوسّل طول الليل في قاعة المجلس
لكن عند الفجر، كان جسده معلّقًا على خطاف حديد عند باب المخزن، وإلى جواره بيان يشرح جرائمه
بعد ذلك لم يجرؤ أحد على أن يمد يده مجددًا
لم يكن برادلي رجلًا يحب الدم، لكن في هذه الأرض من الإقليم الشمالي، من دون عقوبة صارمة يصعب كبح الفساد، فناسها عاشوا فقرًا طويلًا
والآن لا يجرؤ مديرو المخازن على أخذ قطعة فحم واحدة زائدة، ويبلغ الكتبة من تلقاء أنفسهم عن أي سطر خاطئ ويصححونه
لقد نُقشت القواعد في عظام الجميع
هزّ برادلي رأسه راضيًا وغادر منطقة التخزين
وبينما كان يهمّ بالمغادرة كان النهار قد أشرق قليلًا، لكن ثلج الضباب ظل منخفضًا
ارتدى برادلي عباءته السميكة، وصعد إلى العربة، وسار ببطء مع مرافقَيه نحو المستوصف. وعلى الطريق كان يرى آثار أقدام الفرسان في دورياتهم
وفي داخل العربة كان برادلي غارقًا في مطالعة الملاحظات عندما سمع فجأة أصوات أطفال: صباح الخير يا لورد برادلي
نظر من النافذة، فإذا بطفلين قابعين تحت المظلة يشويان البطاطس، وقد تورّدت وجنتاهما الصغيرتان. وقفت إحدى الفتيات ولوّحت له
رفع برادلي رأسه وارتسمت ابتسامة في عينيه، وردّ التحية: صباح الخير
هذه اللحظة الصغيرة تساوي ألف كلمة
فلولا تطبيق الأنظمة وثبات التدفئة، كيف كان يمكن أن تُسمع ضحكات الأطفال في شوارع الشتاء
عند المستوصف، كان عدة أطباء عائدين من جولات الليل يبدّلون المناوبة، ملفوفين بلبادٍ سميك، وملامحهم تشي بإرهاق السهر
وما إن رأت برادلي يقترب حتى خرجت الطبيبة المسؤولة ماري مسرعة تستقبله وانحنت احترامًا
قالت: الليلة الماضية سجلنا أربع حالات حمى جديدة: اثنتان من مساكن اللاجئين واثنتان من السكان المحليين. وقد نُقلت جميعها إلى المستشفى الخاص وفق البروتوكول، ثم توقفت قليلًا وأردفت: لم نرَ سعالًا شديدًا أو قيئًا؛ التقييم الأولي أنها أنفلونزا عادية
أومأ برادلي وهو ينظر إلى البيت الخشبي الذي حُوِّل منذ زمن إلى مستشفى خاص وفق إجراءات طوارئ الأوبئة في المدّ الأحمر
وسأل: هل جرى اختبار الأدوية المرسلة من الأراضي الجنوبية
هزّت ماري رأسها بالإيجاب: نعم، اختُبرت. استخدام الأطفال لها هو الأكثر استقرارًا. السيطرة على الحرارة أسرع بساعة من دواء الإقليم الشمالي المحلي
شدد برادلي: إذا لم تكن الأدوية كافية، فاكتبي طلبًا. لا تعرّضي جماعة للخطر من أجل تقرير واحد
لم تكن هذه تعليمات عابرة؛ بل منصوصًا عليها في اللوائح
فالقواعد التي وضعها لويس بنفسه تنص صراحة: في الوقاية والسيطرة على الأوبئة شتاءً تُقدَّم الكفاءة، وفي معايير صرف الدواء يُقدَّم أصحاب الحالات الشديدة، ولا حجب للدفعات طبقات فوق طبقات، ولا تأخير مقصود
وأضاف برادلي: هل جرى جمع ملفات الحالات
أجابت: تُسلَّم يوميًا وتُعالج موحدًا في الأرشيف. وإذا انطلقت مؤشرات الخط الأحمر تُحوَّل فورًا إلى وضعية المريض
جيّد جدًا، قالها وهو يربّت بخفة على كتف ماري. لقد أحسنتِ العمل
لم تقل ماري شيئًا، واكتفت بإحناء رأسها تحية، ولم ترتح إلا بعد أن ركب برادلي العربة وانطلقت مبتعدة
لقد تحوّلت هذه الإجراءات التي تبدو عادية منذ زمن إلى مؤسسية
فكل عِلّة صغيرة يمكن أن تتحول إلى كارثة في الشتاء
والآن، ليس ماري وحدها، بل الفريق الطبي كله في المدّ الأحمر صار قادرًا على تنفيذ كل استجابة بدقة وهدوء، لأن لديهم قواعد يحتكمون إليها
بعد مغادرة المستوصف، خفّ التساقط قليلًا، لكن السماء بقيت ملبدة
كانت الطريق الصغيرة المؤدية إلى أطراف شارع الورش لا تزال مكسوّة بالثلج غير المزال، فلا تصلح للعربات. مشى برادلي ملفوفًا بعباءته مع مرافقَيه
كانت خطاهم تُحدث قرقعة على الثلج، والهواء مشبعًا بالبرد ورائحة دخان الفحم البعيد
ومعظم الورش مغلقة لعطلة الشتاء، أبوابها محكمة، وتراكمت الثلوج أمامها. ولم يكن إلا المبنى الصغير في نهاية الشارع ينفث سحبًا من البخار الأبيض—ذلك هو مركز تدفئة المدّ الأحمر، الفريق المركزي المسؤول عن صيانة منظومة الحرارة الأرضية في المدينة شتاءً
وما إن اقتربوا حتى سُمِع فحيح البخار، كأن وحشًا عملاقًا يتنفّس حيًّا وسط الثلوج
وعند المدخل، كان عدة فنيين يرتدون مآزر من جلد الغنم يقرفصون أمام أنبوب مفتوح يضبطون صمامات التروس. بدت وجوههم محمرة من البرد، لكن أحدًا لم يوقف العمل. اقترب برادلي بهدوء: تعبتم. جئت لأتفقّد
التفت الفنيون وقد باغتهم حضوره، ولا سيما الفتى الأصغر سنًا، الذي احتاج لحظات كي يستوعب
نهض مرتبكًا، ولا يزال يمسك مفتاح الربط، واحمرّ وجهه وقال: شكرًا… سيدي
كان هذا الشاب هاميلتون، نائب قائد فريق إنشاء المحركات البخارية
ابتسم برادلي قليلًا، وسقط بصره على الجهاز الجديد
كان مرجلًا لتنظيم ضغط البخار مدفونًا نصفه في أساس من الطوب، تمتد منه أنابيب نحاسية وقنوات ناقلة للحرارة بانحراف، كأنها أفاعٍ فولاذية خارجة من باطن الأرض
وعلى جانبه لوحة ملحومة أبهتت حروفها من الحرارة العالية، ولم يبقَ مقروءًا سوى: المدّ الأحمر رقم 1 · استعمال شتوي
هل هذا الجهاز هو الذي حال دون تجمّد الحيّ الغربي، قالها برادلي وهو يراقب الصمام ينفث البخار الأبيض بلا توقف
التفت هاميلتون، الذي كان يقرفص إلى جوار مقياس الضغط يفحصه، وفي نبرته خيط من اعتزاز: هو… يمكنه غالبًا رفع الحرارة من عشرين درجة تحت الأرض إلى سبع وثلاثين أو ثمانٍ وثلاثين
وحكّ رأسه وأردف: لكن التقنية لم تَنضج بعد؛ علينا مراقبته يوميًا. إن تصدّع أنبوب واحد وجب حفر المقطع كله وإعادة وصله
لم يضحك برادلي، بل أومأ
فهذا الشيء بعيد عن الأناقة والدقة؛ أشبه بوحش مرقّع من صفائح ومسامير لحام ساخنة
لكنه فعّال؛ فقد منع حقًّا بيوت المدّ الأحمر الدافئة من التحول إلى أقبية جليد
ثم التفت برادلي إلى نهاية خط الأنابيب: على ذكر ذلك، أبلغ أحدهم من الحيّ الشرقي أمس بأن حرارة البيوت الزجاجية الأبعد منخفضة، وأن السخونة لا تصل إلى النهاية. هل تفقدتم الأمر
أجاب فني أكبر سنًا على عجل: تفقدناه. ذلك المقطع مدفون والضغط الحراري فيه غير كافٍ. نعدّل له قطعة الآن، ويُفترض أن يعود كل شيء طبيعيًا الليلة
حسنًا، قالها برادلي وهو يهزّ رأسه، وجال بنظره في ضباب الثلج: تعبتم جميعًا. سأطلب من الخدمات أن ترسل دفعة إضافية من الوجبات الساخنة الليلة
ولم يُطل، واستدار مغادرًا
وحين عاد إلى الساحة الإدارية كان الليل قد حلّ، لكن قاعة الاجتماعات كانت مشرقة دفئها، يشيعها الموقد وأنابيب البخار فتغدو كأنها ربيع
جلس برادلي في صدر الطاولة، وإلى جواره إبريق شاي ما زال دافئًا
وكان ممثلو مكتب الصناع ومصنع السمك المدخَّن ودائرة التعليم قد وصلوا تباعًا
وامتلأت القاعة الدافئة بتداخل الأصوات، ووُضِعت على الطاولة عدة أوعية من اللحم المطهو بالمرق أرسلتها المطبخ كوجبة ليلية
قلّب برادلي ورقة ملاحظات وتكلم بإيجاز: مهرجانكم العام الماضي كان موفقًا. هذا العام نبدأ التحضير لمهرجان الربيع أبكر، لذا يجب أن يكون أفضل
ثم بدأت خطط كل حيّ لمهرجان الربيع
نهض ممثل حيّ الصناع، وقد شمّر عن ساعديه بحماسة: جهزنا مسابقة حفر الحديد الشتوية. صفائح فولاذية سميكة توفرها الورش، والحفر أمام الجمهور لنرى من يملك أ steadier يدًا وأقوى قوة
ضحك أحدهم: وما الممتع في هذا؟ ليس بقدر سبك السيوف العام الماضي
قال ممثل مصنع السمك المدخَّن: سنقيم هذا العام مسابقة ملك السمك المُخلّل. يقدّم كل بيت صيد برميلًا، واللجنة تتذوق لتختار أفضل نكهة. نريد لعبق البحر أن يملأ الساحة
وقال آخر: صمّمنا سباق الثلج الجديد، بمسار عوائق، يشمل التأرجح بالحبال وتسلق الشباك وحتى صعود المنحدرات الجليدية
كان برادلي يدون كل بند، ويضع علامات حينًا ويهزّ رأسه حينًا
وانتظر حتى أنهوا تقاريرهم قبل أن يُغلق سِجله: قد يتعذر على اللورد لويس حضور فقرة العروض
لكن تذكروا، اجعلوه أبهى مهرجان في الإقليم الشمالي كله، لا لمظاهر التفاخر، بل ليعلم الجميع أن إقليم المدّ الأحمر سيكون أفضل هذا العام
ساد القاعة سكون، ثم تلاه تصفيق جماعي
وفي ساعة متأخرة من الليل، كان موقد قصر سيد المدّ الأحمر متقدًا، تعكس ألسنته على الجدران الحجرية ظلالًا وامضة
جلس لويس على كرسي، يحتضن الرضيع بين ذراعيه ويهده برفق
كان الطفل مولودًا حديثًا، وتفاصيل ملامحه لم تكتمل بعد؛ يبلّ شفتيه بين حين وآخر، ويهمهم مرتين ثم يغفو من جديد نومًا عميقًا
كانت السجادة قرب الموقد لينة وثخينة، والغرفة من الدفء بحيث تكاد تجعلك تنسى أن خلف النافذة ليلة شتاء من الإقليم الشمالي والمدينة مختومة بثلوج كثيفة
وقف برادلي قريبًا، يقلّب صفحات موجزه صفحة بعد صفحة
قال: في ما يخص التوزيع، منطقة التخزين مستقرة، وإمداد الفحم يكفي حتى مهرجان الربيع بلا مشاكل. وقد أتمّ المستوصف عزل الإنفلونزا، وماري لديها دواء وافر
تجهيزات مهرجان الربيع تمضي بسلاسة؛ تقارير الأحياء إيجابية، ونظام التقييم على حاله، ثم توقّف، وأغلق درج الموجز: لا مخاطر كبيرة كامنة؛ كل شيء تحت السيطرة
رفع لويس رأسه، وحدّق عبر الموجز إليه وابتسم: ما دمتَ أنت المسؤول فأنا مطمئن
أومأ برادلي قليلًا وخفض صوته درجات: هذا واجبي
كان ينبغي أن ينتهي التقرير اليومي عند هذا الحد
لكن لويس ربت مرة أخرى على الطفل النائم بين ذراعيه، ثم رفع بصره إلى برادلي: قد لا أكون في مدينة المدّ الأحمر معظم العام المقبل
توقف برادلي لحظة
تابع لويس: في ميناء الفجر اكتملت المسوحات الأساسية. وما إن يذوب الثلج يجب أن يبدأ الطور الأول من دق الركائز وحفر حوض الميناء
وعليه، فشؤون المكان أكلها إليك. آمل أن يبقى المدّ الأحمر كما هو في غيابي
أجاب برادلي: اطمئن يا سيدي، سأرتّب كل شيء
ثم نظر إلى الطفل بين ذراعي لويس وقال بهمس: حين يكبر السيد الصغير ويعلم أنه وُلد في شتاء كهذا، فسيكون فخورًا بك بلا شك
ابتسم لويس ولم يقل شيئًا، واكتفى بهزّ الطفل النائم برفق بين ذراعيه
وحين خرج برادلي من الغرفة، لم يملك إلا أن يستدير ليلقي نظرة أخرى على ذلك المشهد الدافئ
كان لويس ما يزال يحدّق في الطفل بين ذراعيه، بنظرة رقيقة كموقد شتوي
اضطرم في داخله دفء غريب
كان الوقت متأخرًا حين غادر القلعة الطينية
دخل برادلي الحمّام العام، وكأن برودة اليوم كلها ذابت في تلك اللحظة. وكانت هذه أحد فترات راحته القليلة كل يوم
ولمّا رآه الخادم الشاب المناوب هرع إليه مبتسمًا: يا لورد برادلي، غرفتك جاهزة
كانت غرفة داخلية صغيرة مفردة، جدرانها الأربعة مزروعة بحجارة دافئة، وماء الينبوع الحار يتدفق بلا انقطاع
وُضعت صينية خشبية مصقولة عند الحوض، فوقها إبريق شاي ومناشف وثياب نظيفة مرتبة بعناية
خلع برادلي عباءته وهبط ببطء إلى ماء الينبوع الحار، شاعرًا بأن كيانه كله يغوص في سكينة لينة
وفي ضباب البخار تنفّس طويلًا، وأسند رأسه إلى الجدار الحجري وأغمض عينيه: حين غادرتُ الجنوب الشرقي آنذاك، تمتم برادلي لنفسه، ظننتها مهمة شاقة
في أسرة كالفين لم يكن سوى خادم مسن يؤدي واجبه، أداة يمكن الاستغناء عنها في أي وقت
أما هنا، في هذه المدينة المغمورة بالثلج الدافئة كربيع
فهو كبير المُشرفين، نائب إدارة المدينة كلها، ذلك الذي يناديه الأطفال يا لورد برادلي
تقرّر قراراته إن كان عدد لا يُحصى من العائلات سيجد الدفء في ليلة شتوية، وإن كانوا سيتمكنون من أكل وعاء مرق في مساء ثلجي
وتؤثر أحكامه في ما إن كان الإقليم بأسره سيواصل العمل بانضباط وسط العواصف
والأهم أن الناس يُظهرون له الاحترام لما فعله، لا لما هو عليه
فتح برادلي عينيه، ونظر إلى الضوء الأصفر الخافت في البخار
قال بهدوء: أن أصل إلى ما هو عليه المدّ الأحمر اليوم مع اللورد لويس، في هذه الأرض الجليدية—ربما كان هذا القرار الأصوب في حياتي
وحين خرج برادلي من الحمّام كان الثلج ما يزال يهطل
لكن خُيِّل إليه أن كل خيط من دفء وكل شعاع ضوء في هذه المدينة يجيب ذلك الاعتزاز الصغير غير المعلن في قلبه