الفصل 1: القارب المنجرف
أدنى طابق في السفينة التائهة، داخل مقصورة العبيد، كان يعبق برائحة عفن مقززة تفوح من التحلل
أولئك العشرون وأكثر من العبيد الذين يقيمون هناك فقدوا الإحساس بها منذ زمن، كلٌّ ملتف على حصير القش الرطب المشترك
بعضهم بالكاد يتشبث بالحياة، وآخرون استسلموا بصمت للتفسخ
من الخارج كانت ترتج الغرفة بين حين وآخر بطرقٍ عالٍ يُدوّي في آذانهم
وتحت عذاب الجوع الذي لا يُحتمل راحت نجوم صفراء ذهبية لا تُحصى تتراقص أمام أعينهم
كانت تومض مثل حبّات السمسم المتناثرة على «خبز مسطح» كما تصفه الكتب
كان شي مينغ متكورًا هو الآخر في زاوية الغرفة المعتمة
ذلك الموضع كان أفضل نسبيًا، تحميه جداران يمنحانه قدرًا من الأمان
كما أن القش في تلك الزاوية كان أكثر جفافًا قليلًا من غيره، فكان الارتماء هناك أقل رطوبةً وبرودة
كان موضعًا حسنًا
ولم يكتفِ بشَغل موضع حسن، بل ضم شي مينغ إلى صدره نصف خبزٍ مطهو على البخار تبقّى معه
ذلك نصف الخبز الذي لم يطق صاحبه الأصلي أكله حتى وهو على شفا الموت جوعًا
كان الخبز قد تعفّن في البيئة الرطبة، لكنه مع ذلك قادر على إنقاذ حياة
في هذه الغرفة المعتمة كان الناس يسقطون كل يوم
آخر مرة وُزِّع فيها الطعام كانت قبل 5 أيام، حين أعطى قبطان هذه السفينة لكل عبد خبزتين يابستين قاسيتين
ومنذ ذلك الحين صار نصيبهم اليومي زجاجة ماءٍ مالح مع قليل من محلول مغذٍّ لإبقاء الإنسان حيًّا بالكاد
اليوم هو اليوم الثاني لشي مينغ منذ انتقاله إلى هذا الجسد
لقد تولّى جسد صاحبه الأصلي وأعاد ضبط حالة ضعفه
ومع أن شي مينغ لم يأكل طوال اليوم وكان حاله غير جيدة، إلا أنه كان أقوى بكثير من الآخرين
كان هذا النصف من الخبز آخر احتياط لديه
ومن يدري كم سيطول زمن انقطاع الطعام
ربما إلى الأبد
هو لا يريد أن يموت، لا سيما بعدما مات مرة من قبل
بحسب ذاكرة صاحبه الأصلي، صار هذا العالم منذ زمن عالمًا بحريًا بعد كارثة طبيعية هائلة
يعتمد الناس على «السفن التائهة» لينجرفوا ويعيشوا في هذا العالم
ومع تفكك النظام انحدر العالم تدريجيًا إلى مجتمع بدائي يأكل القوي فيه الضعيف
امتلك الأقوياء شرايين الموارد كافة، وصار الضعفاء موادَّ مستهلكة، أسوأ حالًا حتى من العبيد
السفينة التائهة التي هو عليها كانت تقاتل عاصفةً في عرض البحر
ولم تتلقَّ الطواقم أي إمدادات غذائية منذ 10 أيام
أما أهل هذه الغرفة المعتمة فكانوا جياعًا منذ 5 أيام، حتى صاروا لا يميَّزون عن جثث تمشي
في مثل هذه الظروف الخاصة كانت مؤن السفينة الغذائية تتناقص، وكان العبيد بطبيعة الحال آخر من تُؤخذ حاجتهم في الحسبان
بل كان ممكنًا أن يصبحوا هم أنفسهم طعامًا إذا ساءت الحال
لا تستهِن أبدًا برغبة الكائن الحي في البقاء
قبض شي مينغ بشدة على نصف خبزه، وانكمش بلا حراك في زاويته، يحرسه من العبيد الجائعين الذين قد يحاولون انتزاعه
وكانت يده اليمنى تمسك عود قشٍّ حادًّا هو الأكثر سُمكًا وصلابة مما وجده
وإن استُخدم بحذق أمكن أن يكون سلاحًا
وبعد زمنٍ غير معلوم هدأ الارتجاج والعصف العظيمان مؤقتًا
بدأت حركةٌ خفيفة في الغرفة المعتمة، ثم ما لبثت أن تضخّمت
وفي الضوء الخافت شمّ شي مينغ رائحة عفنٍ طازجة
ومن المعلوم أن حاسة الشم أسرع الحواس تعبًا، فإذا شمَّ الآن رائحةً طازجة فذلك يعني
إن أحدًا يقترب
شدّ شي مينغ كل عصب في جسده كأنه فهد، وقبضت يده اليمنى على عود القش الحاد بقوة
وفي العتمة شعر بهيئةٍ صارت قريبة جدًا منه
كانت هيئة رجل في منتصف العمر عريض المنكبين
يفوح من جسده عفنٌ نتن يمكن تمييزه رغم خمود الحواس
اقترب ببطء، وخرج من حنجرته صوتٌ مبحوح متحلّل
يا فتى، أعطني نصف الخبز المتبقي لديك
وإلا سأخبرهم بأن عندك احتياطًا من الطعام، وحينها لن تبقي لقمة واحدة
رفع شي مينغ رأسه إلى العبد الواقف أمامه
كانت هيئته مطموسة في الظلام، غير أن عينيه المعتمتين كانتا تلمعان ببريق طمعٍ ربّما كان أسطع شيءٍ في مجال نظر شي مينغ، هدفًا مثاليًا
وفي نفس واحد خبا ذلك الضوء سريعًا
لقد مكّنته خبرته مرتزقًا في حياته السابقة من إصابة مواضع ضعف البشر بدقة
فأصاب عود القش عين الرجل في منتصف العمر إصابةً مباشرة
دوّى صراخٌ مفاجئ في الغرفة المعتمة، ثم سُحب العود بمهارة ليُستخدم ثانية
وبعد أنفاسٍ قليلة خمد حتى الأنين الخافت الذي أضعفه الجوع
كانت يدا شي مينغ اللتان طوّقتا عنق الرجل قد ابتُلّتا بسائل لزج
هُو
نزع العود، ودفع جثة الرجل بعيدًا، وحدّق بيقظةٍ حوله
لم يكن يريد قتل أحد
كان هذا الرجل قبل يومين قد ابتزَّ من صاحب الجسد الأصلي نصف خبز بالطريقة نفسها
وها هو يحاول ابتزازه ثانية بالطريقة ذاتها
ذلك النصف من الخبز، وإن بدا تافهًا، يمكن في الحال الراهنة أن ينقذ حياة
ولو ظل شي مينغ يملك جسد صاحبه الأصلي الواهن لما فقد نصف خبزٍ فحسب، بل لفقد معها الحياة التي وُلد فيها من جديد وانتقل إليها
كمن مات مرة من قبل، وخرج شابًا مرتزقًا من بيته في حياته السابقة، وقد شاهد كفاح الناس بين الحياة والموت في الحروب والمهام، ثم مات وفي نفسه غُصة
صار توق شي مينغ للبقاء بعد ولادته الجديدة لا يُجارى
لن يموت بسهولة أبدًا
وحتى لو قُدِّر له أن يموت سيقاوم حتى آخر نفس
مع سقوط جثة الرجل ساد الغرفة المعتمة سكونٌ يمكن معه سماع سقوط إبرة
لكن بعد دقائق عاد كل شيء إلى ما كان عليه: خشخشة القش، تأوهات خافتة، صرير أسنان، وحركات أجساد تتقلب
بعد الكارثة صار الناس يموتون كل يوم
ما دام الميت ليس أنت فلا أحد يُبالي
ولا يُعلم كم من الوقت مرّ
أضاءت المصباح الموفِّر الوحيد في الغرفة المعتمة
ومن الخارج جاءت أصوات آلاتٍ معدنيةٍ تقرع، وهمسات بشرٍ تُسمَع بالكاد
انتهت هذه العاصفة الملعونة أخيرًا
اذهبوا وانظروا كم بقي من المواد القابلة للاستهلاك
لا تقولوا إنهم ماتوا جميعًا
دبّ الحراك في الغرفة المعتمة
رفع الأحياء رؤوسهم غريزيًا، يحدقون بلهفةٍ بليدة لكنها شديدة في الباب الوحيد
صرير، ومعه اندفعت نسمة هواءٍ نقي إلى هذه الغرفة المحرومة من الشمس منذ زمن
قال رجل يرتدي درعًا قتاليًا ملطخًا بالدم لقائده
قبطان، في الغرفة 403 بقي 11 من أصل 20 عبدًا
ستة يبدو أنهم ماتوا جوعًا، وثلاثة قضَوا في شجارات داخلية
أحد العبيد مات منذ نحو ساعة؛ فُقئت عيناه مرارًا بجسم حاد، ثم مات اختناقًا
كان القبطان المقصود هنا قائد فريق الاستكشاف
فعلى هذه السفينة التائهة بعد القيامة، إلى جانب المناصب المعتادة مثل القبطان ومساعديه والمهندس الرئيس، يوجد أيضًا فريق الاستكشاف الأهم
ومهامه تضم استكشاف الموارد والبحث عنها للسفينة، وحفظ الأمن الداخلي، والدفاع عن المخاطر الخارجية
قال وهو تحت ضوء مصباح أصفر وهو يرمق شي مينغ، الأقرب إلى الجثة، وإلى بقعة القرمزي الكبيرة على يده اليمنى وذراعه
أأنت من قتله
انطلقت نظرة القائد الحادّة، لكن العصا في يده وصلت أولًا
تعمد شي مينغ ألا يتفادى الضربة فتلقّاها مباشرة
همف، ما زال قويًا إلى حدٍّ ما، تمتم قائد فريق الأمن
الإحساس بردّ العصا على جسد إنسان عادي ليس كالإحساس حين تضرب عاجزًا عن المقاومة
أتقتل الناس كما تشاء، علام تظن هذا المكان
وانهمرت العصا ثانية كالسيل
هذه السفينة التائهة ملجأ يحمي الحضارة البشرية، وليست مجتمعًا همجيًا يأكل فيه القوي الضعيف
حتى العبد لا ينبغي أن تُزهق روحه بيدك
يا رقم 3، خذْه إلى القبطان ليُبتّ في أمره
وأما الباقون فوزّعوا عليهم لكل واحد خبزًا واحدًا وزجاجة ماء واحدة