92
الفصل 92: ليون ضد المزارعين!
سار ليون بخطوات هادئة نحو البوابة، فيما كان قلبه يخفق بجنون من شدة الحماسة. كل خطوة يخطوها كانت تشعل دمه أكثر فأكثر، لا خوفاً، بل توقاً. لم يكلف نفسه حتى عناء النظر إلى سيل الإشعارات التي أغرقت واجهة نظامه. لم يهتم ــ ليس الآن. الشيء الوحيد الذي كان يعنيه هو الخروج من هذا الدهليز الملعون والعودة إلى العالم الحقيقي.
أخرج من خاتمه المكاني القناع الأسود الذي كان قد خزّنه يوم دخل إلى الدهليز. حينها، كان حذراً، شبه متردد. أما الآن؟ فقد ثبّت القناع على وجهه بيدين ثابتتين، وشعره الفضي يلامس حوافه وكأنه يعلن أن ليون الذي دخل لم يعد هو ذاته ليون الذي سيغادر.
اقترب من الدوامة المتلألئة. كانت دواماتها تشده بقوة لا تُقاوَم، وكل التفاف فيها يشوّه الفضاء من حوله. من دون أي تردد، ترك نفسه يُسحب إلى داخلها. تشوشت رؤيته، ثم اسودّت تماماً.
(إذن، هذا هو… ) فكّر ليون، وابتسامة خافتة ترتسم خلف القناع. (يبدو أن القول صحيح: لا مكان كالوطن).
ــ خارج الدهليز، على الأرض…
كان هواء الليل مشبعاً بالتوتر. ظلال عديدة تمركزت على أطراف القرية: بعضهم مختبئون في ظلال الأسطح، آخرون جاثمون فوق الأشجار، والبقية واقفون جهاراً تحت ضوء القمر. أنفاسهم منضبطة، أيديهم على أسلحتهم، وأبصارهم مثبتة على نقطة واحدة ــ كأنهم ينتظرون شخصاً ما، أو شيئاً ما، ليظهر.
من بينهم كانت أليكس، ونوكس، وثلاثة من الحراس النخبة. أجسادهم مشدودة، عيونهم حادة، وكل حواسهم يقظة. وجه أليكس البارد عادةً شابه قلق خافت. بصرها يتنقل بين الظلام الممتد أمامها وبين ملامح نوكس الهادئة الغامضة، ابن البارون.
قالت أخيراً، بصوت منخفض يكشف عن شرخ نادر في ثقتها:
ــ هل تظن حقاً أنه سيأتي؟
زفر نوكس ببطء وضاق نظره:
ــ من نبرة صوته قبل ساعتين، أنا واثق أنه سيأتي. الاحتمال كبير. لكن… ــ عقد ذراعيه بجدية ــ هناك دائماً احتمال أنه كذب. وربما أيضاً يجلب معه آخرين… عصابة، أو حتى قطاع طرق. وحده الوقت سيجيب.
خلال الساعتين الماضيتين لم يكونوا عاطلين. أليكس استدعت مقاتلين إضافيين من “العنكبوت”، المنظمة السرية التي تقودها من الظلال. أما نوكس، فأرسل رجاله للتحقق من بيت ليون. لكنهم لم يعثروا على شيء.
لا ليون. ولا أثر لمكان ذهابه.
الشك كان ينهش نوكس. طالما راوده الظن بأن السارق قد يكون ليون، لكنه لم يستطع تقبّل الأمر كلياً. فليون مزارع. أما السارق؟ فبحسب كل التقارير، مجرد بشري عادي. حتى والده نفسه أكد ذلك. أن يكون ليون المزارع هو ذاته السارق البشري… فكرة مثيرة للسخرية. مستحيلة.
ومع ذلك…
تمتم نوكس وهو يمرر يده في شعره الأسود النفّاث بانزعاج:
ــ أين يمكن أن يكون قد ذهب؟ دهليز؟ في الليل؟ مستحيل. حتى المزارعون ذوو الرؤية الليلية يكرهون التحرك في الظلام. يفضلون الراحة. النوم. حتى الأقوياء يحتاجونه.
انطبقت أسنانه بقسوة، وقبضته مشدودة. منذ متى أصبح القبض على لص بشري أمراً بهذا التعقيد؟ أراد أن يلعن. أن يحطم شيئاً. أولئك الحمقى تركوه يفر من تحت أنوفهم. والآن ليون مفقود من بيته أيضاً. هل أنا محاط بالأغبياء؟
اسودّت ملامح نوكس وهو يستحضر ساعات الانتظار المهدورة. إن لم يظهر السارق الليلة، ستندم أليكس على جرّه إلى هذه الورطة. أقسم أنه سيعلّمها درساً قاسياً.
وفجأة ــ اتسعت عيناه.
تجمد في مكانه. التفت برأسه نحو اليسار. شعر به ــ جوهر مكاني. طاقة غريبة خانقة تشوّه الهواء.
تبعه الحراس وأليكس بنظراتهم، وإن لم يكونوا قادرين على الإحساس بالتموجات الخفية للفضاء كما يفعل. لكن شكوكهم تبددت في اللحظة التالية.
دوامة متلألئة تفتحت من العدم، بيضاء ومضيئة. اهتزت الأرض بخفة تحت ثقل حضورها. حتى أضعفهم استطاع أن يشعر بجوهر الفراغ والفضاء المتدفق من البوابة.
ــ كما هو متوقع من ابن البارون، ــ تمتم أحد الحراس بإعجاب حيال حدة حواس نوكس.
ثم حدث ذلك.
شخصية ظهرت.
سُحبت للخارج بفعل جاذبية الدوامة، لتترنح في هواء الليل وهي غارقة بالدماء. ثيابه ممزقة ملطخة بالقرمزي، شعره الفضي ملطخ بالدم الداكن، وهالته مثقلة برائحة المعارك. لم يعد يبدو كسارق ضعيف بعد الآن. بل كمحارب زحف من الجحيم نفسه.
تصلبت المجموعة في أماكنها. للحظة، ارتبكوا. الرجل أمامهم لم يكن تماماً مثل السارق الذي رأوه قبل ساعتين. بدا أكبر سناً، أقوى، أشد خطراً. لكن القناع، والثياب المغموسة بالدم، وتلك العينان الزرقاوان الفاتحتان… لم يكن هناك مجال للشك. إنه هو.
السارق.
ليون.
كسر الصمت حين رفع ليون يده بهدوء ولوّح لهم بلا مبالاة، وصوته يقطر سخرية:
ــ مرحباً، يا أصدقائي. لم أظن أنكم ستثقون بي إلى درجة تنتظرون ساعتين كاملتين لوصولي. آه، أكاد أشعر كأني سيد شاب يُكرَّم من قِبل خدمه.
كانت الابتسامة البشعة خلف قناعه واضحة في نبرة صوته.
سقطت كلماته كشرارة على قش يابس. بعضهم تيبس في حذر، وبعضهم كاد يضحك من جرأته. وجه أليكس ارتعش بخفة، نصفه مسلٍّ ونصفه الآخر مزعج. أما فك نوكس فقد انطبق بشدة، وعيناه ضاقتا بخطر متزايد.
تبادل الحراس نظرات سريعة. لم يكونوا أغبياء. عرفوا جيداً أن لا يُخدعوا بلهجة ليون المسترخية. فأخطر الرجال في العالم غالباً ما يخفون حقيقتهم خلف قناع من الهدوء العابر.
أليكس، في المقابل، غرقت في عاصفة من التناقض. لولا القناع، والثياب، وتلك العينان، لما صدقت أبداً أن هذه الشخصية الملطخة بالدماء هي نفسها السارق الذي حاصرته قبل قليل. لكن كلماته، وغطرسته، ووجوده الطاغي أكدت ذلك. إنه هو.
خرج مقاتلو “العنكبوت” من الظلال واحداً تلو الآخر، يكشفون أنفسهم. أسلحتهم تلمع ببرودة تحت القمر. وفي ثوانٍ، كان ليون محاصراً من كل الجهات، الدائرة تنغلق عليه كفخ مفترس.
أليكس ونوكس وقفا في الخلف، يراقبانه، يقيسان قوته.
أمال ليون رأسه قليلاً، وظهرت خنجران في يديه بوميض فولاذ بارد.
ــ أن تستأجروا كل هؤلاء الحراس لشخص واحد… مبهر. لكن دعوني أريكم… ــ أدار نصلي الخنجرين بين أصابعه، وصوته يهبط بحدة قاتلة ــ لستُ الشخص نفسه الذي قاتلتموه في المرة السابقة.
الاستدعاء المفاجئ للخنجرين الكريستاليين صدم المجموعة. اتسعت أعينهم لحظة، لكنهم سرعان ما استعادوا رباطة جأشهم.
ثم انفجر الليل في فوضى.
من دون تردد، اندفع المقاتلون نحو ليون.
اصطكاك الحديد. تلاشي الظلال. المعركة بدأت.
ــ سهام النار!
ــ رمح الجليد!
ــ اندفاع الصهارة!
ــ رمح الماء!
انفجر الظلام بالألوان. أعمدة اللهب تزأر، رماح الضوء الجليدي تصرخ، أقواس الصهارة تصفر على الأرض، ورماح الماء المضغوطة تخترق الليل ــ تحول الغبار إلى بخار، والظلال إلى ضباب.
رؤية عاصفة العناصر وهي تتلاقى دفعت ليون للتفكير الخاطف. استدعى حاجز المانا. قبة شفافة مضيئة تشكلت حوله، تهدر بثبات لا يتزعزع. النار تناثرت كشرر فوق زجاج. الماء تفتت إلى ضباب. الصهارة تبخرت على هيئة خيوط منصهرة. الجليد تحطم وانزلق على الحاجز كصفائح متلألئة.
وقف داخل الوهج، شبه متبجح. مقارنةً بضربات ملك الأورك الساحقة، لم تكن هذه سوى ألعاب نارية ــ صاخبة، زاهية، لكنها في النهاية بلا جدوى. حيل مستوى امتصاص الطاقة. جميلة المظهر، لكنها غير كافية.
لم يتوقف المزارعون. حلقات من النقوش دارت تحت أقدامهم، التعاويذ أضاءت، التراتيل انسكبت في الليل. رائحة احتراق، ومعدن، وحجر مبتل ملأت الأجواء. لكن الحاجز صمد، يمتص القوة ويفككها كأن العالم نفسه يأخذ شهيقاً عميقاً ثم يزفره.
من الخلف، تبادل نوكس وأليكس نظرات متوترة. قبل ساعتين فقط كان السارق بشراً ضعيفاً، محاصراً، يائساً. والآن… هذا الكائن المقنّع بالدماء يقف وسط العاصفة كأنه يتدفأ بنار موقد. القفزة كانت مريعة. لا هالة حبوب دوائية، ولا أثر طب علاجي. لا اختراق قسري. مجرد قوة خام باردة لا تتوافق مع منطقهم.
بدأ الشك يتسلل إليهم. هل هذا فعلاً السارق نفسه؟ أم أن شيئاً ما خرج من تلك الدوامة البيضاء مرتدياً جلده؟
داخل القبة، ضاق نظر ليون خلف القناع. أرجع قدمه قليلاً للخلف، وزّن جسده، ثم أسقط الحاجز بطنين خافت. وفي اللحظة نفسها فعّل “خطوات الضوء”، وجرت “سوترا خنجر السارق الإلهي” في عضلاته كنبض ثانٍ. ارتفعت سرعته فجأة. صار مساره ضباباً وخداعاً وشبحاً.
“سوترا خنجر السارق الحاكم” تدفقت في جسده كنبض ثانٍ. سرعته ارتفعت. خطاه أصبحت ضباباً وظلاً ووهمـاً.