86
الفصل 86: الوحي
خيم الصمت المطبق على حشد جنود الأورك وقروييهم. توقفت هتافاتهم الغليظة فجأة، وعيونهم اتسعت دهشة وهم يشاهدون ذاك الوحش الذي أرعبهم—ذلك البشري الذي ذبح العشرات منهم—وهو يترنّح للخلف صارخاً من الألم.
«اللعنة، إنه يؤلمني!» دوّى صوت ليون، يصدع الهواء. تكشفت أسنانه وهو يكتم النزيف بيده الأخرى، محاولاً إيقاف تدفق الدم. وجهه التوى من الغضب، عروقه بارزة على صدغيه.
الورك الذي جرحه ابتسم. ابتسامة غطرسة ملتوية، ابتسامة نصر.
كان من المفترض أن يكون نزالاً، لكنه تخلى عن القواعد. ولم يهتم الأورك بذلك. فالكبرياء لديهم يعني كل شيء. وفي تلك اللحظة، شعر ذاك الجنرال بالفخر—فخرٍ لم يذقه من قبل. لقد جرح الوحش. لقد أظهر لإخوته ما لم يستطع أحدهم فعله.
رأى ليون تلك الابتسامة. كبرياءها الساخر. وانكسر شيء في داخله.
«أنت…» صوته كان مبحوحاً، مشبعاً بالكراهية. «سأجعلك تندم. سأمزق تلك الابتسامة الحقيرة من وجهك!»
لكن جسده خانه. طاقته انخفضت بشدة، رؤيته ضبابية. لم يعد قادراً على القتال بهذا الحال. عرف أنه إن بقي، فسيخسر—لن يخسر النزال فحسب، بل كل شيء. فبزمجرة غاضبة، انطلق مبتعداً، يركض نحو الحشد.
الجمهور، مصدومين من حالته المضرجة بالدماء، انشقوا غريزياً أمامه. الجنود والمدنيون تراجعوا خطوةً للخلف، هتافاتهم تحولت إلى همسات. ولحظةً وجيزة، بدوا وكأنهم… خائفون مجدداً. خائفون من ذلك البشري المدمّى الذي يعبر صفوفهم بزمجرات وحشية.
توارى ليون بين الظلال خلف الحشد، مفعِّلاً مهارة الإخفاء. جسده تلألأ وتشوّه حتى اختفى عن أنظارهم. الجنرالات الذين لاحقوه—واضح أنهم كانوا مأمورين من الملك بالتجسس عليه—توقفوا مشوشين. لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء التخفي، إذ إن كبرياءهم منعهم من النزول إلى «عار» التخفي. لكن الآن، انقلب غرورهم ضدهم.
ارتبكوا حين اختفى ليون. عيونهم جالت يمنة ويسرة، قبضاتهم مشدودة على الفؤوس، حتى لمحوه مجدداً فجأة—ظهر على بعد أمتار، وكأنه كان هناك منذ البداية.
ما لم يعرفوه هو أنه خلال ثواني اختفائه، كان ليون قد أخرج قارورة زمردية اللون. فكّ السداد المرتعش بين أصابعه، أسقط قطرة على لسانه، وشاهد بدهشة كيف التأم الجرح. العضلات أعادت تكوين نفسها، العظم التحم، الجلد انغلق. في ثوانٍ، استعادت يده عافيتها، وإن ظلّت ثيابه ملطخة بالدماء، مخفيةً المعجزة عن أعين أعدائه.
قبض ليون أصابعه المتعافية وابتسم. المرحلة الأولى اكتملت. الآن تبدأ المرحلة الثانية.
اشتعلت عيناه بنار الانتقام. الأورك الذي ابتسم في وجهه—ذاك الذي كسر القواعد—قد حُكم عليه بالموت.
وحين خرج من الظلال عائداً باتجاه ملك الأورك، كانت خطواته ثابتة. جسده، رغم تلطخه بالدماء، بدا صلباً لم يُكسر. الجنرالات الذين يراقبونه شدّوا على أسنانهم بغيظٍ غير مصدق.
ليون تجاهلهم. تجاهل نظراتهم وكبرياءهم. تركيزه كله كان على الملك.
قال ببرود، كأن شيئاً لم يحدث: «أريد طعاماً.»
تأمل ملك الأورك في صمت، ربما يتساءل كيف يقف أمامه سليماً بعدما فقد نصف يده قبل لحظات. لكنه لم يعلّق. اكتفى بالإشارة، فاقتيد ليون إلى مائدة طويلة محاطة بكراسٍ خشبية ثقيلة.
مُدّت فوقها ثمار—لامعة، متوهجة، مشبعة بالمانا. تفاح يسطع بضياء ذهبي خافت. توت يتلألأ كالكريستال. عنب يتصاعد منه بخار.
تمتم ليون وهو يضيق عينيه: «ثمار متحوّرة…»
في عالم “الأرض الملتهبة”، لم تكن الحيوانات وحدها هي من تتطور. النباتات أيضاً، عبر الدم، والـ”تشي”، وجوهر الوحوش، تتحول إلى «ثمار متحوّرة». والفرق هنا واضح—الثمار أمامه لم تحمل طاقة “تشي”، بل مانا. مانا كثيفة، متماسكة، كأنها تُغني في الهواء.
زمجر بطنه عند رؤيتها، مذكراً إياه أنه لم يأكل منذ قرابة يومين. ولأول مرة منذ ساعات، ارتسمت ابتسامة ملتوية على وجهه.
(حسناً…) فكّر. (سآكل معهم. ثم أنهي هذه اللعبة. بطريقةٍ أو بأخرى.)
شاب بشعر فضي جلس على المائدة الخشبية الطويلة، فكه يتحرك بجنون وهو يلتهم كومة من التوت والعنب والثمار المتوهجة أمامه. أكل بلا مبالاة، بلا تفكير في آداب. عصير الثمار انساب من زاوية شفتيه، يلطخ ذقنه باللون الأحمر كأنه دم. كان ينهش الطعام كوحشٍ جائع.
ولِمَ لا؟ لقد كان الإنسان الوحيد في هذا السجن الملعون. الإنسان الوحيد المحاط بأورك يرمقونه بعيون كالخناجر. وبدون شك، كان الجائع الأكبر في محيط أميال.
ولم يكن غريباً. فقد كان الوحيد الذي قاتل بلا توقف ليومين كاملين. يومان بلا نوم. يومان بلا طعام. يومان من القتال المستمر، الدماء، والموت القريب. معدته بدت كجحيم مشتعل. جسده يصرخ طالباً الوقود. حتى أقسى تدريبات جنود الوحدات الخاصة على “الأرض الملتهبة” قد لا تضاهي ما تحمله.
الأورك من حوله—الجنرالات الذين تمرسوا لعقود—أكلوا ببطء، بمضغٍ منضبط. حركاتهم محسوبة، طقسية. أما ليون، فبدا كوحشٍ منفلت، يبتلع الثمار باليدين.
لم يهتم. حشر حفنة أخرى من التوت المتوهج في فمه، يمضغ بصوتٍ عالٍ، حلقه يعمل بجنون فيما العصير الحلو المشبع بالمانا ينزلق داخل جسده المتعطش. كل قضمة كانت تدفقاً للحياة، كل بلعة تضخ قلبه أسرع.
وفي داخله، كان ينسج خطة. (لم يتبق لي سوى ساعة وبعض الدقائق لإنهاء هذا السجن… عليّ أن أتحرك بسرعة. أولئك الأوغاد في الخارج لا بد أنهم بانتظاري. هيه… قادم أيها الأوغاد. لا أطيق صبراً لسرقة مهاراتكم، تمزيق تقنياتكم، وامتصاص احتياطياتكم اللعينة من “التشي” حتى أرتقي من جديد).
ارتسمت ابتسامة مظلمة، شيطانية على شفتيه. عيناه الفضيتان تلألأتا بخطورة تحت وهج النار.
تجمّد بعض الجنرالات الذين كانوا يراقبونه، أجسادهم تقشعر رغم أنفسهم. لم تكن تلك ابتسامة فتى—بل كانت ابتسامة شيطان. جلودهم السميكة وخزها توترٌ غير مفسَّر، وكأنهم يواجهون شيئاً أسوأ من الوحش.
وحين شعر ليون بعيونهم تخترقه، رمش بعينيه. مسح بارتباك آثار العصير عن فمه بمعصمه، وعاد لتمثيل دور “الوحش الجائع”، مطأطئاً رأسه وعائداً لالتهام الطعام بوحشية. كان المشهد أقرب إلى الكوميديا—كما لو أن شيطاناً تنكّر فجأة في هيئة شحاذ جائع.
تبادل الجنرالات نظراتٍ قلقة، بعضهم تحرك في مقعده بانزعاج. الهالة التي تسربت منه قبل لحظات ما زالت معلّقة، تنهش أعصابهم.
وحين هدأ جوع ليون بما يكفي ليفكر بوضوح، لعق بقايا عصير التوت عن أصابعه واتكأ قليلاً للخلف. رفع عينيه نحو ملك الأورك، وطرح السؤال الذي ظل يحرق ذهنه:
قال بفمٍ ما يزال ملطخاً بلب الثمار: «إذاً… أخبرني. كيف جئتم إلى هنا؟ وكيف بحق الجحيم تفهمون وتتحدثون لغة البشر؟»
ساد الصمت في الخيمة. مضغ الجنرالات تباطأ حتى توقف. صار صوت لهب المشاعل في الخارج الأعلى.
نظرة ملك الأورك النارية ثبتت على ليون. ظل صامتاً طويلاً، كأنه يقرر إن كان سيجيب. ثم بصوتٍ عميق يهدر كالرعد، قال:
«من بين كل الأورك في مملكتي، أنا الوحيد الذي يجيد لسانكم البشري. جنرالاتي… تابعيّ… لا يستطيعون التحدث به، وإن كانوا يفهمونه. أما عن كيف تعلمته…» توقّف لحظة، تقاسيمه تشدّدت. «لغتكم ليست غريبة عني. إنها مجرد صورة متطورة من لغة أسلافكم، المزارعين البشر القدماء.»
قطّب ليون حاجبيه: «المزارعون البشر القدماء؟»
زمجر الملك: «ألا تعرفهم!؟» صوته انطلق كالسوط، وجهه التوى بذهول. جنرالاته بدورهم عبسوا، وكأن ليون قال أغبى ما يمكن قوله. «ألست بشرياً!؟ كيف لا تعرف أجدادك!؟»
رفع ليون كتفيه متصنعاً اللامبالاة: «سمعت الاسم. أسأل كيف التقيت بهم.»
ضيّق الملك عينيه، لكنه واصل: «الأمر بسيط. كنا نتقاسم الحدود معكم البشر. على الكوكب الأزرق العظيم… قبل أن نصعد.»
رمش ليون مظهراً الحيرة: «تصعدون؟ ماذا تعني بالصعود؟»
تحوّل ذهول الملك إلى سخرية: «ألا تعرف ما معنى الصعود!؟ يا للجهل! يا للعار!» قبضته شدّت حتى أصدرت مسندة الكرسي الخشبي صريراً. «الصعود هو كسر الجينات… التحوّل إلى الصورة العليا من سلالة المرء. المرحلة الأولى هي التطور—التحوّر. هي اللحظة التي يتعلم فيها الكائن كيف يسيطر على الطاقة. كالـ”تشي”، مثلاً.» صوته خفت، عيناه تلتمعان بذكرى قديمة. «كنت أظن أن “التشي” هو الطاقة الوحيدة في الوجود. لكن حين جُررت إلى هذا السجن، تبددت احتياطياتي من التشي… واستُبدلت بهذه القوة المجهولة. هذه… المانا.»