84
الفصل 84: لا شيء
الفصل معا
في ساحةٍ مفتوحة، كان ليون يخوض قتالاً شرساً ضد أحد القادة السبعة لحاكم الأورك.
قال ليون بسخرية وهو يلوّح بخنجرَيه البلّوريَّين بمهارة، يصدّ الضربات ويهاجم بخفة مذهلة:
“ألستَ ضعيفاً أكثر مما ينبغي!؟”
زمجر الأورك باحتقان، والغضب يتأجّج في عينيه. كرامته كقائد احترقت خجلاً من تلك الكلمات. أن يُهان من إنسان حقير – بل من كائنٍ يراه أدنى منه – كان أعظم إهانة. وكل ضربة منه ازدادت ثقلاً، وخطواته غدت أكثر يأساً.
ومع ذلك، لم يكن لأي من جهده أثر أمام ليون. كان يتعامل مع كل هجوم كما لو كان نوبة غضب طفل، يصدّ الضربات بخنجرَيه بحركات هادئة وسلسة، بينما يتسع ابتسامه كلما فشل الأورك في محاولة جديدة.
جيش الأورك المتحلّق من حولهم هدر بالصياح، يشجع قائده كأنهم جمهور من المحاربين في ساحة دموية. ورغم أنّ قائدهم كان يتراجع، ظلّوا يأملون، يهتفون باسمه، يظنون أنه سيجد سبيلاً للنصر.
لكن الأمل لم يكن شيئاً أمام دقّة ليون.
انتهت المعركة بحسمٍ وحشي؛ خنجر ليون شقّ دفاع القائد، ليجبره على الهزيمة أمام أعين الجميع. ترنّح القائد مبتعداً، وكبرياؤه ينزف كما نزفت جراحه السطحية.
حين وصل إلى مقدّمة الحشد حيث يجلس القادة الستة الآخرون، جلس على مقعده صامتاً، متجاهلاً سخرية رفاقه. أما الأورك المحيطون فاستقبلوه بالصفير والاستهزاء، ووجوههم مشوّهة بالاحتقار. بالنسبة لهم، أن يخسر أمام هذا الإنسان كان عاراً.
وفي المركز بينهم جميعاً جلس حاكم الأورك، ثابتاً لا يضحك ولا يستهزئ، بل يحدّق في ليون بنظرة باردة وحادة، كأنّه يمزّقه بتأمله.
صاح ليون بصوتٍ اخترق الضجيج كسيف:
“التالي!”
كانت نبرته آمرة، ساخرة، ومع ذلك هادئة.
نهض أحد القادة فوراً، متلهفاً لمحو عار رفيقه. رمق المهزوم بنظرة متغطرسة، كأنّه يقول: “كنتَ ضعيفاً. شاهد كيف سأنهي هذا الإنسان بسهولة.” لكن القائد المهزوم لم يمنحه حتى نظرة، وصمته كان أوجع من أي كلمة.
اشتعل غضب القائد الجديد من تجاهل زميله، فأطلق شخيراً بارداً وتقدّم إلى الساحة بخطوات متعالية. أشار إلى طرف الميدان، كأنه يأمر ليون بالانسحاب قبل أن يجرّ على نفسه العار.
ضجّت الجموع فرحاً بجرأته، وعاد لهم الحماس، أصواتهم تهزّ الهواء. هذا ما أرادوه: كبرياء، غطرسة، تجسيدٌ لحقيقة الأورك.
لكن ليون لم يفعل سوى التثاؤب، وهو يربت بخنجره على كتفه بكسل:
“أحمق آخر يضيّع وقتي.”
بدأت المعركة… وانتهت أسرع من سابقتها. الأورك المتغطرس، الذي كان يفاخر بنفسه منذ لحظات، هُزم في نصف الوقت الذي استغرقه ليون لهزيمة الأول. لقد قتله غروره.
ساد الصمت.
دخل القائد الثالث، متخم بالفخر. هزيمة.
تقدّم الرابع. هزيمة.
الخامس… هزيمة.
السادس… هزيمة.
كل مواجهة انتهت بليون واقفاً شامخاً، وكل قائد ينسحب في خزي. ومع كل خسارة، ازداد صمت الجموع ثقلاً، وتحوّلت هتافاتهم الهادرة إلى ذهول. إيمانهم بدأ يتصدّع.
ففي منظورهم، لم يكن يهزم القائد سوى الحاكم. كان من غير المعقول أن يتمكن دخيل – خاصةً إنسان – من إسقاط قائد، فضلاً عن ستة. ومع ذلك فعلها ليون، وجعل الأمر يبدو وكأنه لعب.
بحلول سقوط السادس، لم يعد الحشد يستهزئ ولا يشجّع. أفواههم متدلية، وملامحهم فارغة. كأنّ الواقع نفسه يهتز أمام أعينهم.
لكن الأمل عاد فجأة.
وقف القائد السابع، ممسكاً بفأسه الضخم. وتغيّر الجو فوراً.
على عكس الآخرين، حمل نفسه بهدوء راسخ. لم يسخر، لم يتبجّح، لم يستعرض. بل تقدّم بخطوات واثقة، وهالته خانقة. وما إن قبض على مقبض فأسه، بدا كأورك محارب حقيقي—صلب، مرعب، قمّة القوة الغاشمة والخبرة.
انفجر الجيش بالهتاف من جديد، وقد اشتعل إيمانهم. هذا هو الذي انتظروه. أقوى قائد. حامل الفأس. في نظرهم، هو البطل الذي سيعيد مجد عرق الأورك، ويمحو العار الذي جلبه ليون.
أمال ليون رأسه، وارتسمت على شفتيه ابتسامة ماكرة:
“أخيراً… خصم يستحقني.”
وقف المحاربان متقابلَين، والتوتر كثيف حتى عمّ الصمت. حتى الهواء بدا كأنه يحبس أنفاسه.
تحرّك القائد أولاً، منطلقاً كوحش، وفأسه يشق الهواء بقوة رهيبة. واجهه ليون مباشرة، واصطدمت خنجره البلورية بالفأس في صرير معدني تطايرت منه الشرارات.
ارتجّت الأرض تحت الضربة. ولم يتراجع أي منهما.
للمرة الأولى، عمّ الصمت التام، والعيون متسعة، والأجساد تميل إلى الأمام بانتظار. حتى حاكم الأورك، الذي ظلّ وجهه ساخطاً طوال المعارك السابقة، انحنى قليلاً إلى الأمام، وعيناه حادتان بترقّب.
كان القائد السابع يقاتل بدقة، ضرباته محسوبة، وحركات قدميه متقنة بشكل غير مألوف لدى الأورك. لم يكن يتخبّط في ضرباته؛ بل كان كل هجوم مدروساً، وكل خطوة مثقلة بالخبرة.
لمعت عينا ليون حماسة:
“هذا هو… واصل! هذا ليس أسلوبهم الوحشي المباشر. هذا واحدٌ يقاتل بدهاء. لكن حين يتعلّق الأمر بالدهاء… فإن أسلوب خنجر اللص الإلهي لا يُبارى.”
انساب بين هجماته كالدخان، وخطواته الخفيفة تحمله بعيداً عن متناول الضربات. وكل طعنة من خنجره تحمل زاوية خادعة، تصيب نقاط ضعف لا يراها غير المتمرسين. شيئاً فشيئاً، بدأ الميزان يميل لصالحه.
خفتت هتافات الحشود مجدداً، وحلّ محلها صمت متوتر. بطلهم الأقوى كان يتعثر.
أما ليون، فابتسامته تتسع:
“الآن… هذه معركة تليق بي.”
أحسّ بغرائزه القتالية تصقل أكثر، وحركاته تغدو أصفى وأفتك. كأنّ كل اصطدام مع قائد الفأس ينحت خبرة جديدة في عظامه.
“سيّد… سيّد…”
رنّ الصوت في رأسه مجدداً.
تصلّب جسده. الخناجر البلّورية… تتكلّم؟
“ما اللعنة… لماذا تنادونني سيّداً هكذا!؟” كاد صوته ينكسر في داخله، والارتباك يهدّد تركيزه.
جاءه صوت أوضح هذه المرة، لا يردّد اللقب فقط، بل يجيب:
“لأنك أنت سيّدنا.”
شهق ليون مذهولاً، وتشتّت تركيزه لجزء من الثانية.
شهقت الجموع حين هوت الفأس، قاصدة خاصرته المكشوفة.
صرخت الخناجر في ذهنه:
“احذر!”
قبل أن يردّ، تحركت الشفرات من تلقاء نفسها، ساحبةً جسده معها. تحركت ذراعه بغرابة، لكن الخناجر اعترضت الفأس تماماً، فتطايرت الشرارات حين اصطدم الفولاذ بالبلور.
بدا المشهد للأعين فوضوياً، كصدّ غير متوازن محكوم عليه بالفشل. لكن في النهاية، أوقف ليون الضربة بنجاح.
زفر بقوة وهو يستعيد توازنه:
“ما الذي يحدث…؟ هذه الخناجر… حية أكثر مما كنت أدرك.”
تابع القائد هجومه، لكن ابتسامة ليون عادت. وبعد دقائق، وعرق يتصبّب من جبينه وأنفاسه متقطعة، دار بجسده وغرس ضربة حاسمة. انغرس الخنجر البلّوري في صدر الأورك، فاندفع الدم فيما ترنّح الجسد الضخم وسقط.
هدر الجمع في غضب وذهول، وانقلبت هتافاتهم إلى عويل ثائر.
رفع ليون خنجرَيه، غارقاً في العرق، ولوّح بهما نحو حاكم الأورك بابتسامة ساخرة.
قبل بدء القتال، كان قد راهن الحاكم بأنه سيهزم القادة السبعة خلال ثلاثين دقيقة. وقد سخر الحاكم منه، واثقاً من استحالة ذلك.
والآن، ستة قادة مُهانون، وسابعهم سقط للتو أمام الجميع.
ضاقت عينا الحاكم وهو يحدّق في ليون، الذي وقف شامخاً يبتسم كالمجنون.
لكن ليون لم ينتهِ بعد.
لقد تذكّر سبب قبوله هذا النزال. لم يكن الأمر انتصاراً فقط، بل تدريباً. فرصة مثالية ليدفع جسده إلى أقصاه، ويصقل مهاراته ضد خصوم أذكياء قادرين على وضع الخطط، بخلاف الوحوش المتحوّرة الغبية.
فالوحوش تقاتل بالغريزة، أما الأورك فبغريزة ممزوجة بذكاء بدائي، عنفهم مصقول بدهاء. إنهم دمى تدريب مثالية. وليون عازم على استغلال كل ذرة من هذه الفرصة.
أعاد الحاكم على مسامع القادة طلب ليون السابق—أن يقاتلوه جميعاً معاً. عندها تصلّب القادة. ولأول مرة أدركوا أنّ ليون لم يكن يراهم سوى أدوات لنموّه.
اشتعل الغضب في عيونهم. لقد دِيست كبرياؤهم مراراً، والآن يُعاملون كوقود تدريب؟ كان ذلك لا يُحتمل.
صرير أسنانهم علا، وأصابعهم اشتدت حول…
— يتبع —